لقد فرضت إسرائيل نفسها من خلال الحروب المتتالية ومن خلال انتصارات عسكرية منذ حرب 1948. وقد استغلت إسرائيل القرار الأمريكي الذي يلتزم بجعلها متفوقة عسكريا على مجموع جيوش الدول العربية. إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تمتلك سلاحا نوويا معتبرا في منطقة الشرق الأوسط. لكن من جهة أخرى (وهذا هو الاهم) لم تقدم الانتصارات العسكرية لإسرائيل الاعتراف والشرعية كما لم تحل لها مشكلات المياه والاقتصاد والتجارة. فإسرائيل بحاجة للأسواق والانفتاح على المنطقة العربية. إن الذي تريده إسرائيل من العرب واضح، قبول بها وقبول بنتائج انتصاراتها، بل وقبول باحتلالها للقدس ولفلسطين و قبول بها بصفتها إحدى أقوى الدول في الشرق الاوسط.
في الجوهر «التطبيع» كما أفهمه ليس مسألة شكلية، بل إنه في الجوهر تطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي والصهيونية و قبول بالمروية الإسرائيلية والصهيونية حول الارض والسكان، وهو يتضمن تخلي عن عرض المروية المناقضة للصهيونية والاحتلال. إن أول من تحدث عن هذا النوع من التطبيع (التطبيع بلا حقوق وبلا مطالب وبلا حق تقرير مصير) هو أبا ايبان وزير خارجية إسرائيل الذي إعتبر في ستينيات القرن العشرين أن التطبيع يهدف لبناء علاقات طبيعية مع العرب على كل المستويات (مع تجاوز كلي للقضية الفلسطينية).
ان التطبيع بلا عدالة هو الهدف الإسرائيلي الذي سيفتح لها الباب امام المزيد من الهجرة اليهودية و سيسمح بنفس الوقت لإسرائيل بأخذ مزيد من اراضي الفلسطينيين. ستكون تلك معادلة جديدة لعدم الاستقرار في الشرق الاوسط وفي الاردن وفي الدول المحيطة. في السابق اقامت إسرائيل سلام مع مصر بلا الفلسطينيين وقد نتج عن ذلك السلام مقدرة إسرائيل على التوسع في مجال الاستيطان والتهويد إضافة لشنها لعدة حروب أهمها حرب لبنان 1982. السلام بلا عدالة يعني استمرار مشروع إسرائيل الاستيطاني والتوسعي وسط تفكك الحالة العربية ووسط مزيد من الاعتماد العربي على القوى الدولية والإسرائيلية لحماية الحد الادنى من أمنها.
كل علاقة تقوم على الظلم والفرض بالقوة والاحتلال ولا تتضمن حلولا للمشكلة ستنتج مزيدا من النزاعات والمواجهات
لهذا تأتي موضوعة ان العدو في هذه المرحلة إيران وليس إسرائيل لتقدم دماء جديدة لمشروع التطبيع. و الواضح بنفس الوقت ان هذا التوجه لن يضعف إيران بل سيزيدها إصرارا مما سيعزز تحالفها مع تركيا و روسيا والصين. التركيز على المواجهة مع إيران والتطبيع مع إسرائيل معادلة جديدة للنزاعات في منطقتنا. بل لو وقع نزاع حقيقي مع إيران في منطقة الخليج ستجد المنطقة إنها بلا غطاء سياسي شرعي وبلا غطاء اقليمي وبلا دعم حقيقي من الولايات المتحدة.
وهناك أنواع من التطبيع. لهذا يخرج من تعريف التطبيع كل لقاء معلن هدفه شرح القضية الفلسطينية وشرح وجهة النظر العربية في المحافل العالمية لأنه في ذلك يثبت الحقوق ولا يعتبر ذلك تطبيعا، لكن كل اجتماع هدفه ادخال إسرائيل في لقاءات مع الاقليم ولا يهدف لمناقشة القضية الفلسطينية يتحول لنمط مدروس من التطبيع. فالتطبيع هو تطبيع مع الاحتلال ومع الاقتلاع ويتضمن بنفس الوقت تخليا عن الحقوق التاريخية وحقوق العدالة.
هذه ليست اول مرة يتحرك مشروع للتطبيع، ألم يجتمع معظم العالم العربي في مؤتمر مدريد في 1991، حينها شاركت دول الخليج وسوريا ومصر مع إسرائيل في مؤتمر تم تنظيمه بعناية. ومن لا يذكر مثلا مؤتمرات المتعددة الاطراف والتي عقدت بين الجانبين العربي والإسرائيلي وبمشاركة اوروبا وروسيا والولايات المتحدة والصين وغيرها؟
تلك المؤتمرات المعقودة في عواصم عالمية وعربية لم تؤد لشيء، بل تم اغتيال الشخصية الأهم في الجانب الإسرائيلي الساعية للسلام (رئيس الوزراء اسحاق رابين) في تلك المرحلة من قبل متطرف إسرائيلي يهودي. كما ان حروب غزة منذ 2008 بالتحديد جعلت عددا من دول الخليج تبتعد بالكامل عن فكرة السلام. بل حتى المبادرة العربية التي طرحتها الدول العربية وتبنتها المملكة العربية السعودية في العام 2002 سقطت في وحل الاجتياحات الإسرائيلية والانتفاضات الفلسطينية والحروب حول غزة وفي جنوب لبنان.
ستبقى أسئلة السلام في الذهن العربي، فنحن العرب مجتمعات مسالمة. لكن يجب الحذر، فكم من تطبيع مع الظلم أدى لأسوأ الحروب، كل علاقة تقوم على الظلم والفرض بالقوة والاحتلال ولا تتضمن حلولا للمشكلة ستنتج مزيدا من النزاعات والمواجهات. السير وراء التطبيع مع إسرائيل بلا عدالة نافذة في فلسطين وبلا عدالة في ملف الصراع العربي الإسرائيلي وبلا القدس سيفتح شهية إسرائيل لمزيد من السيطرة والاضطهاد الموجه ضد سكان البلاد الأصليين. فلو قامت إسرائيل بطرد جماعي ماذا ستفعل الدول العربية؟ ولو قامت إسرائيل بأكثر من ضم القدس وفتحت المجال لحرب جديدة (في ظل الضعف العربي) ماذا سيفعل العالم العربي؟ وإن نجحت إسرائيل في فرض سيطرتها عبر مزيد من التفتيت للحالة العربية فهل يؤدي ذلك لاستقرار النظام العربي أم لاهتزازه؟ هذه اسئلة ستبقى معنا لزمن ليس بالقصير.
القدس العربي