الوعي العشائري الجديد.. بداية النهاية لصحوات الأنبار

الوعي العشائري الجديد.. بداية النهاية لصحوات الأنبار

a1422452139

يسود اعتقاد في الوسط الاجتماعي في الأنبار عمومًا بأنّ غالبية شيوخ عشائر الرمادي أشخاصٌ غير متدينين، ويسعون للحصول على المال والسلطة بأيّ وسيلة كانت، بصرف النظر عن الاعتبارات الاجتماعية والأخلاقية والدينية.

بعد تحول الصراع إلى طابعه العسكري الذي تشهده المناطق السُنية منذ عام ونصف العام، ظهرت عشائر بأكملها تقاتل إلى جانب القوات العراقية في مدينة الرمادي، رافق ذلك انقسامات عميقة في بنية المجتمع العشائري في المدينة، في حين لم تكن هناك حالة مشابهة في مدينة الفلوجة التي تعيش حالة اجتماعية متماسكة في وقوفها ضدّ القوات الحكومية. “أما ما ظهر من فئات حاولت شقّ الصف في الفلوجة، فقد تمّ التغلب عليها بإقصاء أيّ دور مؤثر للحزب الإسلامي العراقي، وجناحه المسلح المعروف باسم حماس العراق؛ حيث تمّ تفجير مبنى الحزب، ومصادرة أسلحة أفراده في الأسبوع الأول من العام 2014 على يدّ تنظيم الدولة“، كما يقول لـ “التقرير” أحد أبناء عمومة الشيخ خالد الجميلي، الذي قاد ساحة اعتصامات الفلوجة حتى مقتله على يدّ مجهولين في وسط الفلوجة.

تُولي الحكومة العراقية، والإدارة الأمريكية، ودول الجوار العربي والإقليمي، أهمية بالغة لعشائر الأنبار؛ في منافسة لكسبها إلى صفّهم في مواجهة تنظيم الدولة، واستنساخ تجربة الصحوات العشائرية بأُطر جديدة تتجاوز نقاط الفشل التي أدّت إلى نهاية دورها في العام 2010، “لكنّ اختلاف الظروف السياسية، وتطور الوعي السياسي في الوسط الاجتماعي، مع ظهور عامل السلوك الطائفي للحكومة العراقية في تعاملها مع سُنَّة العراق؛ سيؤدي إلى رجحان كفة المنافسة لصالح تنظيم الدولة الإسلامية التي باتت تتعامل بصيغ مختلفة مع العشائر التي لا تقاتلها“، كما يقول مصدر عشائري في اتصال مع “التقرير” من داخل مدينة الرمادي. ويُضيف، ردًا على سؤال حول ما أشار إليه بالصيغ المختلفة في تعامل التنظيم مع العشائر، قائلًا: “بعد سيطرة التنظيم على مدينة الرمادي قبل شهرٍ تقريبًا، استجاب لرغبة رؤوس العشائر بقبول توبة أبنائهم من منتسبي الشرطة والجيش والصحوات، ثمّ سلّم إدارة الملف الخدمي للمدينة إلى أبناء العشائر، بإشراف قياداته دون تدخل في تفاصيل العمل اليومية، فيما حصر الملفين الأمني والعسكري بمقاتليه“.

رغم أنّها ليست من كبريات عشائر قبيلة الدليم، تَصدّرت عشيرة “البو ريشة” واجهات الإعلام المحلي والعالمي بعد أنْ شكَّل شيخها عبد “الستار أبو ريشة” مجلس الصحوات بشكلٍ رسمي خريف العام 2006، برعاية القوات الأمريكية، وكانت زيارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن لمحافظة الأنبار واستقباله الشيخ “أبو ريشة” الحدث الأبرز في تلك الآونة، لكنّ هذا المجد لمْ يستمر طويلًا؛ حيث تمكّن تنظيم الدولة الإسلامية من قتل “أبو ريشة” في الأول من رمضان 2007، بعد عامٍ فقط من إعلانه مجلس الصحوات.

عند سؤاله عن الأسباب التي دفعته للعمل مع “أبو ريشة”، والقتال معه ثم العمل مع خلفه، شقيقه الشيخ أحمد أبو ريشة، يقول أحد مقاتلي لواء “أبو ريشة”، في حديثٍ خاص لـ “التقرير”، وكان قد عمل على رأس مجموعة تتناوب على حماية الشيخ عبد الستار أبو ريشة قبل مقتله: “أبو ريشة هو من أبناء عمومتي، لمْ نفهم خلافه مع تنظيم القاعدة في حينها، ولمْ نكن ننظر إلى من يتعامل مع القوات الأمريكية لمصلحة عشيرته بأنّه خائنٌ، أو عميل، وعندما تشكّلت نواة صحوة أبي ريشة للتصدي للتنظيم، كنتُ من أوائل من ساهموا في تشكيل هذه النواة، والتصدي لتنظيم القاعدة الذي باشر فورًا بشنّ هجمات غير معتادة قصد إفشال مشروع الصحوة والقضاء عليه في مهده، وقد تكبّدنا خسائرَ كبيرة جدًا، كانت ساعات عصيبة، كنّا محاصرين في عدّة بيوت، وكنتُ مع الشيخ في أحد البيوت المحاصرة، وقد أمهلنا التنظيم ساعة واحدة للاستلام، أو مهاجمة هذه البيوت، لكنّ تدخل القوات الأمريكية برًا، وطائرات الأباتشي جوًا، أنقذنا من الموت الأكيد“.

يتميز أبناء مدينة الفلوجة عن مدينة الرمادي بأنّهم عادة يستمعون إلى علماء الدين أكثر من شيوخ العشائر، أما أبناء الرمادي فإنهم يستمعون إلى شيوخ العشائر أكثر من استماعهم لعلماء الدين؛ وهذا يعني أنّ حالة التدين تطغى على أبناء الفلوجة فيما تطغى الحالة العشائرية على أبناء مدينة الرمادي. في مقابل عشيرة البو ريشة في الرمادي، تتسيد عشيرة البو عيسى صدارة مشهد العشائر التي انخرطت في مشروع الصحوات في الفلوجة، وما حولها.

من الحقائق أنّ مجلس محافظة الأنبار لا يضم أيّ عضو فيه من أبناء الفلوجة الأصليين، أيْ من سكان مركز المدينة، إنّما هم من أبناء العشائر الذين يعيشون خارج مدينة الفلوجة، أو في الوحدات الإدارية التابعة لها؛ وهو الأمر الذي انعكس على تركيبة الشرطة المحلية في مدينة الفلوجة؛ حيث تتشكل في غالبيتها العظمى من أبناء المناطق المحيطة بمركز المدينة، مثل مدينة الصقلاوية بالدرجة الأولى، ومناطق أخرى خارج الفلوجة تقطنها عشائر مثل البو عيسى والبو علوان، وغيرهما.

على العكس من ذلك، تتشكل شرطة الرمادي بنسبة كبيرة من عشائر تعيش داخل المدينة، أو على أطرافها، مثل عشيرة البو فهد، والبو علوان، وهي العشيرة التي تأزّم الوضع الأمني بسبب اعتقال أحد أبنائها، النائب أحمد العلواني، ومع هذا نجد في الواقع وقوف نسبة كبيرة من أبناء العشيرة إلى جانب القوات الحكومية بحجة وجود عناصر تنظيم الدولة الإسلامية. لكنْ، في حقيقة الأمر، فإنّ “موقفهم هذا يأتي نتيجة الخشية من فقدانهم لرواتبهم في حال تسريحهم من الشرطة بعد استقرار الوضع لصالح القوات الحكومية، أو في حالة استمرار العمل المسلح لأشهر طويلة، فيما لم يلتفتوا إلى تحريم كبار القيادات الدينية السُنيّة القتال إلى جانب القوات الحكومية، أو الدخول في تشكيلات الصحوات الجديدة؛ مما يعني فقدان علماء الدين السُنَّة للكثير من الاحترام لدى عموم أبناء المناطق السُنيّة“، كما يقول المدرس أبو مهند الذيابي في حديث خاص لـ “التقرير”.

يتركز تواجد عشيرة البو عيسى في المساحة الممتدة من ناحية عامرية الفلوجة، 30 كيلومترًا جنوب مدينة الفلوجة، وحتى منطقة الفلاحات إلى جوار قاعدة الحبانية، 15 كيلومترًا غرب مدينة الفلوجة، ولها تواجد بشكل متفرق في المركز الحضري لمدينة الفلوجة. ولعشيرة البو عيسى عدّة أفرع، من أهمها البو صالح والبو حاتم والبو هوا والفحيلات وغيرها، ويعد فرع البو حاتم هو الأبرز عددًا ونفوذًا؛ فيما يتميز فرع الفحيلات بموالاة التيار الجهادي، وعُرفَ عنهم “شراسة مقاتليهم الذين لعبوا دورًا مشهودًا في قتال القوات الأمريكية التي كانت تخشى الدخول إلى مناطقهم“، كما يقول أبو جسار العيساوي، أحد أبناء فرع الفحيلات في حديثه لـ “التقرير”.

لعب شيوخ عشيرة البو عيسى التي ينتمي إليها الوزير المستقيل رافع العيساوي، الشخصية السُنيَّة البارزة في المشهد السياسي، دورًا كبيرًا في تثبيت ركائز الأمن في مناطقهم بالتعاون مع القوات الأمريكية التي كانت تقدم لهم الدعم لقتال تنظيم القاعدة في عام 2006 والأعوام التي تلته، ويرى أبو جسار العيساوي: “إنّ قوّة تنظيم القاعدة في تلك الفترة، والتحاق الكثير من أبناء عشيرة البو عيسى إلى صفوف التنظيم، وفصائل المقاومة الأخرى، قد حجَّم كثيرًا من دور شيخ عموم عشيرة البو عيسى خميس حسناوي العيفان؛ لكنّ الانتقالة إلى الواجهة من جديد جاءت بعد قبول العيفان بالدخول في مشروع الصحوات تحت قيادة عبد الستار أبو ريشة، الذي بنى عليهم آمالًا كبيرة في إخضاغ الفلوجة لسيطرته“.

فشل العيفان في إخضاع الفلوجة وما حولها، حتى بعد “تشكيل صحوة البو عيسى، بمؤازرة من كتائب حماس العراق الجناح المسلح للحزب الإسلامي، الذي يعدّ رافع العيساوي أحد أهم قيادييه في تلك الفترة؛ حيث كان يشغل منصب نائب رئيس الوزراء؛ بسبب رفض عدد من العشائر تأييد مشروع الصحوات، ومن بينها عشيرة الفلاحات التي على الرغم من تبنيها موقف الحياد من القتال الدائر بين تنظيم القاعدة من جهة، والقوات الأمريكية والصحوات من جهة أخرى؛ إلا أنها تعرضت لاعتقالات طالت شيوخها بعد أنْ تصدّر المشهد ضابط في الجيش السابق، وادعى أنّه شيخ الفلاحات وتعامل مع القوات الأمريكية؛ إلا أنّ أبناء العشيرة لمْ يتبعوه؛ مما أدى لفشل الصحوة في عشيرة الفلاحات“، كما أوضح لـ “التقرير” عبد الله الفلاحي، أحد وجهاء عشيرة الفلاحات.

من جانب آخر، يروي لـ “التقرير” أحد القادة الميدانيين لكتائب حماس العراق، رفض الكشف عن اسمه، وكان مقربًا من الوزير رافع العيساوي قبل أن يعتزل العمل مع الكتائب ويعلن توبته، عن التنكيل الذي تعرض له فرع الفحيلات على يد الفروع الأخرى من أبناء عشيرتهم البو عيسى، وقد شارك في بعض العمليات ضدهم، قائلًا: “عند ارتفاع حدة الاقتتال الدامي بين تنظيم القاعدة، أو دولة العراق الإسلامية فيما بعد، وعشيرة البو عيسى في العام 2007، وتدخل القوات الأمريكية إلى جانبها؛ كانت هناك مجازر حقيقية قد ارتكبت ضد عوائل فرع الفحيلات، وكان أبناء عشيرة البو عيسى، وأنا منهم، منقادين بشكل أعمى لإرادة شيخهم خميس الحسناوي العيفان، وكان الشيخ العيفان قد أوكل مهمة قيادة الصحوات إلى ابن عمه عيفان العيفان الذي أغدقت عليه القوات الأمريكية الأموال الطائلة للقضاء على تنظيم القاعدة ومعه فرع الفحيلات الذي يقاتل إلى جانبه، وقد نجح إلى حدّ كبير؛ حيث استطاع بالتعاون مع عشائر أخرى مثل عشيرة الجنابيين، من طرد تنظيم القاعدة من مناطق عامرية الفلوجة، ومحيطها، وتهجير عوائل فرع الفحيلات، وتشريدهم، واعتقال الكثير من شبابهم“.

بعد تخلي القوات الأمريكية عن الصحوات منذ أوائل العام 2010، وإحالة ملفها إلى الحكومة العراقية، بدأت مرحلة ثانية اتسمت باستهداف دولة العراق الإسلامية لكبار قياداتها، والفتك بها، بعد أنْ أوقفت الحكومة العراقية صرف رواتب قيادات الصحوات وحماياتهم، كما أنّ الحكومة أيضًا زجّت بأغلب تلك القيادات في المعتقلات، لكنّ “الضربة القاصمة التي تلقتها صحوة عشيرة البو عيسى هي تمكّن الدولة الإسلامية في العراق والشام مطلع العام 2013 من تنفيذ عملية أمنية أدّت إلى مقتل عيفان العيفان في الحيّ الصناعي بالفلوجة، وكان العيفان في حينها يشغل منصب نائب في البرلمان العراقي“، كما يقول عادل العيساوي، أحد عناصر صحوة البو عيسى الذي يرى أنّ صحوة البو عيسى قد “تفككت فعلًا، لكنّ سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على مدينة الفلوجة مطلع العام 2014، وخشية عشيرة البو عيسى أنْ تطالهم حملات انتقامية على خلفية ماضي العداء مع التنظيم؛ دفع بشيوخ العشيرة لعقد تحالفات جديدة مع صحوات العشائر الأخرى، والحكومة العراقية، وقوات الحشد الشعبي، مع تواصل مستمر مع القيادات الأمريكية عن طريق الوزير رافع العيساوي، القائد الحقيقي لصحوات البو عيسى، ومعها كتائب حماس العراق الجناح العسكري للحزب الإسلامي الذي يُعدّ رافع العيساوي اليوم أحد أهم قيادييه مكانة لدى الحكومة الأمريكية والحكومات العربية“، على حدّ قول عادل العيساوي، الذي ينهي حديثه معبرًا عن أمله في أنْ تعود الفلوجة كما كانت “يحكمها أهلها الحقيقيون بعيدًا عن سطوة ميليشيات الحكومة، أو حكم تنظيم الدولة الإسلامية“.

رائد الحامد – التقرير