بينما يحتضر “مشروع أوسلو” في قطاع غزة والضفة الغربية، بعد فشله في تحويل قضية فلسطين إلى أعمال بلدية تقوم بالكناسة والحراسة، من خلال عجز حركة حماس عن تأمين الخدمات في غزة، وفشل السلطة في تحقيق الأمن لإسرائيل من خلال العملية البطولية للشهيد، عمر أبو ليلى، صدر كتاب “جشع. طموح. فاسد. القصة الاستثنائية لجاريد كوشنر” للصحافية الاستقصائية، فيكي وارد، وكشف أهم ملامح صفقة القرن، ليتأكد أن الصفقة ما هي إلا “نصبة” لتاجر عقارات غر وتافه ومحتال، يعتقد أن القضية الفلسطينية يمكن أن تحل عندما تُحوّل إلى مشروع تطوير عقاري.
ليست المشكلة في مستشار الرئيس الأميركي، كوشنر، فقد يكون متحمّسا جاهلا بالمنطقة، واقعا وتاريخا، أو صهيونيا متطرّفا، يريد اغتنام لحظة ترامب لتحقيق خدمة تاريخية لدولة الاحتلال، بقدر ما هي بوكلاء الشركة العقارية في المنطقة، أو شركائها في أحسن الأحوال. وجد تاجر العقارات في شخصيتي، وليي عهد السعودية وأبوظبي، محمد بن سلمان ومحمد بن زايد، ذاته، فهما من المدرسة العقارية ذاتها. الإمارات في النهاية تسوق نفسها بأنها بلد حوّل رمال الصحراء إلى ناطحات سحاب، وهذا الشكل المعماري الذي يقلد نيويورك قلب “الإمبرطورية”، حوّل طموحات البلد إلى مشروع استعماري إمبراطوري. وفي المقابل، لم ينتبه محمد بن سلمان إلى أهمية الكعبة، القبلة الأولى ومهد حضارة العرب والإسلام، واكتشف مستقبل البلاد في مشروع تطوير عقاري يشبه إمبراطورية الإمارات، وسلفها الصالح، نيويورك. وينضم إليهما عبد الفتاح السيسي صاحب مشروع عقاري في عاصمة مصر الإدارية الحديثة، وتهجير السكان واقتطاع الأراضي في سيناء. وهو ينسجم مع سلوكٍ يتعامل مع الحرمين بوصفهما عقارَين للاستثمار، ودمر الموروث الحضاري التاريخي ليبني برج ساعة عملاقة، تتطاول على الكعبة المشرفة. ولذا كان محمد بن سلمان الحاكم الوحيد في التاريخ الذي يعتلي سقف الكعبة، ليس تحديا لمشاعر الأمة بقدر ما هو جهل بقيمتها، تماما كالجهل بقيمة القدس وفلسطين. وهم في خلواتهم، وبعيدا عن السياسة، ربما يتساءلون: لماذا قومنا يتقاتلون على فلسطين، فشاطئ نيوم أطول من شواطئها، فقد يمتد على البحر الأحمر كله ماء وشواطئ وجزرا!
غزة تكون مثل دبي، ورام الله مثل أبو ظبي، ونأخذ من الأردن ممرّا للبحر الأحمر، وتعطيه السعودية شاطئا إضافيا على البحر الأحمر، يوسع من ميناء العقبة ويدخلها في عالم نيوم الجميل! وغزة تمتد في سيناء، وتأخذ “فيو” على البحر، ونتخلص من الدواعش. أما في عمّان، فستتحول المخيمات إلى أسواق شعبية تصدر الميرمية والزعتر والأثواب المطرّزة. والأردنيون مجرد بدو يصدّرون المسلسلات البدوية والأهازيج والمنتجات الأمنية لشركة المخابرات العامة، ومن الممكن أن تُضاف لهم مهام فرقة مكافحة إرهاب، ترتدي الأقنعة السوداء.
ليس سخريةً، هكذا يفكرون حقيقة، وهذا مبلغهم من العلم. لنقرأ بتمعن فقراتٍ نشرتها “الجيروزاليم بوست” من الكتاب، تضمنت مسودة الخطة “خط أنابيب للنفط من المملكة العربية السعودية إلى غزة، في مرحلة ما منح الأردن الأراضي للفلسطينيين مقابل الحصول على الأراضي من المملكة العربية السعودية”.
تستشهد وارد بأشخاص عديدين، شاهدوا مسودات الخطة “التي وضعها كوشنر، ولن تشمل إسرائيل والفلسطينيين فحسب، بل أيضا السعودية والأردن ومصر والإمارات. ما أراده كوشنر هو أن يقدم السعوديون والإماراتيون مساعداتٍ اقتصادية للفلسطينيين. كانت هناك خطط لإنشاء خط أنابيب للنفط من المملكة العربية السعودية إلى غزة، حيث يمكن بناء المصافي ومحطة الشحن. ستؤدي الأرباح إلى إنشاء محطات لتحلية المياه، حيث يمكن للفلسطينيين العثور على عمل، ومعالجة معدل البطالة المرتفع”.
وقالت وارد إن الخطة تشمل أيضًا مبادلة الأراضي، حيث يمنح الأردن الأراضي إلى الفلسطينيين، “وفي المقابل، سوف يحصل الأردن على الأراضي من المملكة العربية السعودية، وستسترد تلك الدولة جزيرتين على البحر الأحمر أعطتهما لها مصر”.
في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، كتب مايك إيفانز، وهو صهيوني مسيحي إنجيلي، ومؤسس متحف أصدقاء صهيون في القدس، مقالًا في “جيروزاليم بوست”، يروي خطة لإنشاء مصنع لتحلية المياه بتمويل سعودي وأوروبي لتوفير المياه النظيفة لغزة، فـ “خلال الثلاثين يومًا الماضية، قدمت خطة جديدة إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وولي العهد السعودي”.
ما يدعو إلى التفاؤل أن تلك الأوهام فشلت، عندما صدرت عن سياسيين محنكين أكثر واقعية، مثل بيريز وكتابه “الشرق الأوسط الجديد” وأبو عمار الذي افتتح صالة قمار في أريحا واهما أنها ستكون لاس فيغاس، ومن بعده نتنياهو في “السلام الاقتصادي”. في النهاية، الأردن والسلطة ومعظم العالم العربي والإسلامي والاتحاد الأوروبي والبيروقراطية الأميركية في الحقيقة ضدها. والأهم أن فتىً نشأ في رحم سلطة التنسيق الأمني ضرب السلطة الفلسطينية وما تنسقه. وهؤلاء الفتية هم مستقبل المنطقة، لا الفتى كوشنر وصبيانه الذين ستتكرر أمامهم أزمة الرهن العقاري بشكل مختلف، وسيخسر مشروع التطوير الوهمي قريبا.
العربي الجديد