شرحنا في المقال الأول من هذه الثلاثية أبعاد التعديلات التي يسعى النظام الحاكم لإدخالها على دستور مصر الحالي، واستعرضنا في المقال الثاني مواقف القوى السياسية المختلفة من هذه التعديلات. وبعد أن خلصنا إلى خطورتها، من ناحية، وانقسام فصائل المعارضة حول الأسلوب الأكثر فاعلية في التصدي لها وإسقاطها، من ناحية أخرى، توقعنا أن ينجح النظام الحاكم في تمريرها عبر استفتاء مشكوك في نزاهته، ما لم تطرأ أحداث محلية أو إقليمية أو عالمية ترغمه على العدول عنها وسحبها في اللحظة الأخيرة، وهو احتمال ضعيف على أي حال.
وسنحاول في مقال اليوم، وهو الثالث والأخير في هذه السلسلة، تحليل آثار دخول هذه التعديلات حيز التنفيذ على مستقبل النظام الحاكم. إذا سارت الأمور في مسارها الطبيعي، وتمكن النظام الحاكم من حسم معركة الاستفتاء لصالحه، يتوقع أن تنشغل أطراف المعادلة السياسية، لبعض الوقت، في جدل حاد حول تفسيرها الخاص لنتائج الاستفتاء، بل ربما تلجأ فصائل المعارضة إلى تبادل الاتهامات في ما بينها حول مسؤولية ما حدث. فالنظام الحاكم سيسعى من ناحيته للترويج لأمرين يشعر بحاجة ماسة للتأكيد عليهما في تلك المرحلة. الأول: نزاهة وشفافية الاستفتاء، الذي سيروج لمقولة أن نتائجه المعلنة تعبر عن الإرادة الحقيقية للناخبين. والثاني: التفاف الشعب المصري حول قيادته السياسية وتفهم أغلبية الناخبين لدوافع ومبررات التعديلات الدستورية التي صوت عليها بنعم اقتناعا منه بأنها تصب لصالحه. أما فصائل المعارضة فيتوقع أن تنشغل من ناحيتها بمحاولة إثبات أن الاستفتاء لم يكن نزيها أو شفافا، وأن نتائجه المعلنة ليست هي النتائج الصحيحة، ولا تعكس الإرادة الحقيقية للناخبين، وأن أغلبية ساحقة من الناخبين عبّرت عن موقفها الرافض لهذه التعديلات، إما بالامتناع عن التوجه أصلا إلى صناديق الاقتراع، أو بالمشاركة فيه والتصويت بلا. ومع ذلك فليس من المستبعد ايضا أن تشتبك فصائل المعارضة في تبادل الاتهامات في ما بينها حول مسؤولية الفشل، أو العجز عن إدارة معركة سياسية ناجحة تحول دون دخول التعديلات الدستورية المقترحة حيز التنفيذ، لذا يمكن القول إن العلاقة بين النظام الحاكم وفصائل المعارضة، من ناحية، وبين فصائل المعارضة في ما بينها، من ناحية أخرى، ستعود إلى سابق ما كانت عليه وربما أسوأ. فالنظام الحاكم سيجنح إلى التعامل مع مختلف فصائل المعارضة، مثلما اعتاد من قبل، وكأنها مجرد قوى هامشية معزولة جماهيريا ومتحالفة مع الإرهاب، وتعمل لحساب أجندات خارجية، أما فصائل المعارضة فستجنح بدورها إلى التعامل مع النظام الحاكم باعتباره فاقدا للشرعية ومغتصبا للسلطة بقوة السلاح، ولا يستطيع من ثم استعادتها عبر استفتاء على تعديلات دستورية تدعم سماته الاستبدادية، ومع ذلك لا توجد حتى الآن مؤشرات توحي بأن معركة الاستفتاء ستساعد فصائل المعارضة على توحيد صفوفها.
غير أن فترة «مناكفات ما بعد الاستفتاء» قد لا تدوم طويلا، فسرعان ما ستجد أطراف المعادلة السياسية نفسها منغمسة في معارك سياسية أكبر وأهم بكثير من تصفية الحسابات في ما بينها، ألا وهي معركة الانتخابات التشريعية التي ستبدأ إجراءاتها قبل نهاية شهر نوفمبر المقبل، كي يتمكن البرلمان الجديد من عقد أولى جلساته قبل نهاية شهر يناير من العام المقبل، ومعركة الانتخابات الرئاسية التي يفترض أن تبدأ أجهزة الدولة في الاستعداد لها بعد حوالي عام من انعقاد أولى جلسات البرلمان الجديد. ولا جدال في أن هذه المعارك السياسية الكبرى ستضع كلا من النظام الحاكم وفصائل المعارضة أمام تحديات جسام، خاصة أنها ستكون كاشفة، من ناحية، لحجم التغيير الذي طرأ على طبيعة النظام الحاكم وآلياته ووسائله في معالجة المشكلات والقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بعد دخول التعديلات الدستورية حيز التنفيذ، ولمدى قابلية فصائل المعارضة، من ناحية أخرى، للنضج السياسي واستخلاص الدروس المستفادة من أخطائها المتكررة طوال الحقبة الماضية.
من المعروف أن خريطة الطريق التي أعلنها السيسي يوم 3 يوليو 2013، حين كان وزيرا للدفاع، كانت تقضي بإجراء الانتخابات البرلمانية أولا، لكن ما إن شرع في التفكير جديا في الترشح لانتخابات الرئاسة حتى سارعت لجنة الخمسين التي عهد إليها صياغة الدستور، في إدخال نص احترازي يسمح بإجراء الانتخابات الرئاسية أولا، وهو ما تم فعلا ومكّن لاحقا الأجهزة الأمنية من التدخل بكثافة في الانتخابات التشريعية لتفصيل برلمان على مقاس رئيس جديد قادم من المؤسسة العسكرية وليس لديه حزب، أو تيار سياسي يضمن له أغلبية برلمانية يعتمد عليها. ويلاحظ هنا أن البرلمان الذي تمكنت أجهزة الأمن من تشكيله هو البرلمان نفسه المكلف اليوم بتمرير التعديلات الدستورية المطلوبة، لتمكين المؤسسة العسكرية من إحكام قبضتها على مقاليد السلطة، قبل الشروع في إجراء انتخابات برلمانية يتوقع أن تتم في أجواء مختلفة كليا عن تلك التي جرت في نهاية عام 2014.
على صعيد آخر، يلاحظ أن انتخابات الرئاسة لعام 2014 جرت في أجواء تمتع فيها السيسي بشعبية كبيرة، خاصة داخل أوساط كانت تشعر باستياء شديد من سلوك جماعة الإخوان عقب ثورة يناير، وفي ظل مناخ سياسي كان البعض ما زال يأمل في أن يساعد على تصحيح المسار الديمقراطي، وهو ما يفسر إقدام حمدين صباحي، الحاصل على المرتبة الثالثة في انتخابات عام 2013، على خوض معركة الرئاسة في مواجهة السيسي عام 2014، بصرف النظر عن مدى سلامة قراره من عدمه. أما في انتخابات الرئاسة لعام 2018 فقد اختلف الوضع كلية، خاصة بعد إقدام السيسي على ردع أو اعتقال أهم منافسيه، وفي مقدمتهم الفريق أحمد شفيق والفريق سامي عنان، حيث لم يترشح أمامه سوى شخص لا يعرفه أحد، عثرت عليه أجهزة الأمن في اللحظة الأخيرة. ولأن الأجواء التي ستعقد فيها انتخابات الرئاسة المقرر إجراؤها عام 2022 ستكون مختلفة كليا عن سابقتيها، يتوقع أن تفضي بالنظام الحاكم في مصر إلى مفترق طرق قد ينتهي بمأزق لا فكاك منه. فليس من المستبعد أن يصبح عام 2021 بالنسبة للرئيس السيسي عاما شبيها من زوايا عديدة بعام 2010 بالنسبة للرئيس مبارك، خاصة إذا ما اسفرت الانتخابات التشريعية المقبلة عن برلمان يشبه برلمان 2010 من حيث القابلية لإحكام السيطرة عليه. وفي هذه الحالة يمكن تشبيه الانتخابات الرئاسية التي كان يفترض أن يقوم مبارك بإجرائها عام 2011، وهي أول انتخابات تجرى وفق تعديلات دستورية تم تفصيلها خصيصا، وبدون وجه حق على مقاس جمال مبارك الطامح في إرث السلطة من والده، بالانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها عام 2022، وهي أول انتخابات يفترض أن تجرى وفق تعديلات تم تفصيلها خصيصا، وبدون وجه حق أيضا، على مقاس السيسي الطامح لفترة ولاية ثالثة يحرمها الدستور تحريما قاطعا.
لا أظن أنني أبالغ إن قلت إن إقدام نظام السيسي على طرح التعديلات الدستورية الحالية يشبه إلى حد كبير إقدام نظام مبارك على طرح التعديلات الدستورية التي استهدفت عام 2007 فتح الطريق أمام جمال مبارك لتولي السلطة، وهو المشروع الذي لم يستشعر مبارك خطورته في حينه، وانتهت بإدخال نظامه في مأزق لا فكاك منه. فقد راح مبارك وقتها يختال بنفسه وكأنه في حصون مشيدة، ووصلت استهانته واللامبالاة بما يجري حوله حد التشهير علنا بقوى المعارضة، من خلال عبارة «خليهم يتسلوا» الشهيرة التي نطق بها أمام مجلس الشعب، الذي جاءت به انتخابات 2010 المزورة. لكن ما هي إلا اسابيع قليلة حتى كانت نيران الثورة تحاصر نظامه من كل جانب إلى أن اضطرته شخصيا للتخلي عن السلطة في 11 فبراير. فهل يعيد التاريخ نفسه؟
القدس العربي