مأساة العبّارة تقطع جسور الثقة بين أهالي الموصل وقادة الدولة العراقية

مأساة العبّارة تقطع جسور الثقة بين أهالي الموصل وقادة الدولة العراقية

حادثة غرق العبّارة في مياه دجلة بالموصل رغم مأساويتها وكثرة ضحاياها، تغدو “مجرّد تفصيل” ضمن سلسلة الكوارث التي أصبح يتعايش معها العراقيون بشكل شبه يومي، جرّاء الفساد والفشل الحكومي والإداري الذي يرتقي إلى مرتبة فشل نظام سياسي برمّته، وهو ما يعيه العراقيون وعبّروا عنه في ردود فعلهم الغاضبة على مأساة العبّارة.

الموصل (العراق) – تحوّل حادث غرق العبّارة في نهر دجلة بالموصل شمالي العراق والذي ارتفع، الجمعة، عدد ضحاياه إلى أكثر من مئة قتيل وخمسين مفقودا، إلى ما يشبه “سبر آراء” تلقائيا مباشرا على مستوى ثقة العراقيين بالطبقة السياسية، لاسيما الممسكة بزمام السلطة.

وأظهرت ردود الفعل الشعبية على الحادث، سواء منها ما تجسّد على الأرض أو ما عكسته مواقع التواصل الاجتماعي، انعداما تامّا للثقة بالمسؤولين في الدولة من مختلف المستويات، بل أظهرت مقدارا كبيرا من النقمة على الطبقة السياسية برمّتها.

ورفض أهالي الموصل ما سمّاه أحد المغرّدين على تويتر “حفلة النفاق” في إشارة إلى حملة التنديد الواسعة بالمسؤولين عن الحادث والتضامن مع ضحاياه التي انخرط فيها السياسيون على اختلاف انتماءاتهم السياسية والعرقية والطائفية.

وجسّد الأهالي نقمتهم على السلطة القائمة من خلال هجوم محتجّين في الموصل على موكب رئيس الجمهورية برهم صالح الذي توّجه إلى المدينة على عجل إثر حادث العبّارة.

وتعالت صيحات الاستهجان في وجه الرئيس، ومُنع موكبه من التقدّم ما اضطرّ مرافقيه إلى إخلائه بسيارة مدنية، فيما ترك موكبه بالجزيرة السياحية في الموصل.

كذلك تعرّض محتجّون إلى موكب محافظ نينوى نوفل العاكوب واضطرّوه إلى قطع زيارته للجزيرة السياحية التي شهدت حادثة غرق العبّارة. وأظهرت مقاطع فيديو بُثّت على شبكة الإنترنت المحتجّين وهم ينقضّون على سيارة المحافظ الفاخرة ويحطّمون زجاجها. وحاول الموكب تخطّي المحتجيّن بالقوة ما أدّى إلى دهس اثنين من أقارب ضحايا العبّارة الغارقة، وإصابتهما إصابات طفيفة.

ومحافظ نينوى متهم بالفساد وسوء إدارة شؤون المحافظة اقتصاديا واجتماعيا وأمنيا وذلك وفق تقرير صدر مؤخّرا عن لجنة برلمانية تمّ تكليفها بالتحقيق في سوء الأوضاع العامّة في نينوى وتدهور أوضاعها رغم مضي حوالي عام وتسعة أشهر على استعادة مركزها مدينة الموصل من تنظيم داعش.

ولا يجد الكثير من العراقيين فرقا بين مختلف الحوادث المميتة التي تتكرّر كثيرا في العراق، سواء تعلّق الأمر بحوادث عرضية مثل غرق العبّارة في الجزيرة السياحية بالموصل، وانفجارات مخازن الأسلحة الواقعة داخل الأحياء السكنية ببغداد، والحرائق وغيرها، أو تعلّق بحوادث إرهابية مثل تفجير السيارة المفخّخة الذي ضرب صيف سنة 2016 شارع الكرادة وسط بغداد مخلّفا أكثر من 300 قتيل، إذ إن مختلف تلك الحوادث في نظر العراقيين نتيجة مباشرة لضعف أجهزة الدولة وتراخي المسؤولين عنها واستهتارهم بأرواح الناس ومصائرهم.

كما لا يتردّد العراقيون في ربط تلك الحوادث بظاهرة الفساد التي تغوّلت وأصبحت مظهرا آخر للإرهاب في البلد تتقاطع معه وتتكامل في الكثير من المظاهر.

وعبّر محتجّون في الموصل عن غضبهم من الفساد والإهمال اللذين أدّيا إلى حادثة العبّارة رافعين شعار “الفساد يقتلنا”، وذلك بعد رواج أنباء عن تواطؤ السلطات المحلّية في الموصل مع مالك العبّارة والسماح له بتحميلها بأضعاف طاقتها الأصلية، رغم تهالكها وانعدام وسائل الحماية والأمان فيها، بينما لم تقم تلك السلطات بإخطار الأهالي والقائمين على الجزيرة السياحية بارتفاع منسوب جريان نهر دجلة بفعل الزيادة في إطلاق مياه سد الموصل لتعديل مخزونه من المياه بعد ارتفاعه بسبب الأمطار التي تهاطلت مؤخّرا.

وحمل أحد المتظاهرين لافتة كتب عليها “من المسؤول”، فيما قال متظاهر فقد شقيقه في الحادث لوكالة فرانس برس إنه لن يغادر ضفة دجلة دون أن يحصل على جواب، مؤكّدا “نريد تقديم المسؤولين إلى العدالة لأنهم لا يهتمّون”.

وانخرطت المرجعية الشيعية العليا في العراق بزعامة علي السيستاني، الجمعة، في المطالبة بمحاسبة المسؤولين عن غرق العبّارة.

وقال أحمد الصافي معتمد المرجعية خلال خطبة الجمعة في كربلاء “إنّ الحادثة المؤلمة تشير إلى خلل كبير في النظام الإداري للدولة وهو عدم قيام الأجهزة الرقابية بدورها وهذا جزء من الفساد المستشري”.

وطالب “بالكشف عن ملابسات ما حدث ومحاسبة المسؤولين عن هذه الحادثة المأساوية”، قائلا “لا بد من تحمل المسؤولية في مثل هذه الحوادث الكبيرة من جانب من وقعت الحادثة في نطاق دائرته ويقدم استقالته ويضع نفسه تحت تصرف اللجنة التحقيقية وتحمل النتائج عن هذا التصرف”.

واعتادت المرجعية الشيعية في العراق أن تأخذ مسافة عن السلطات السياسية في مثل هذه الحوادث، فيما الأحزاب الشيعية الكبيرة القائدة للعملية السياسية والممسكة بزمام السلطة، تعتبر مرجعية النجف مظلّتها وسندها ومصدر أفكارها و”مبادئها” الكبرى.

وكان رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي قد أمر بإجراء تحقيق في غرق العبّارة. كما أُعلن الجمعة عن إحالة محافظ نينوى للتحقيق، غير أن العراقيين لا يثقون في التحقيقات واللجان التي تشّكل للقيام بها وما يصدر عنها من نتائج وتوصيات ويعتبرون تشكيلها بداية تغييب الحقائق ومساعدة المسؤولين على الإفلات من العقاب.

وقرر مجلس محافظة نينوى، إحالة المحافظ نوفل العاكوب إلى التحقيق على خلفية حادثة العبّارة واعتداء رجال حمايته على المحتجّين، وطالب نائب رئيس المجلس نورالدين قبلان في بيان بـ”التحقيق مع جميع الجهات الإدارية والرقابية في الموصل وهيئة السياحة في نينوى والموارد المائية ومشروع سد الموصل وشعبة التفتيش المائي والنجدة النهرية وهيئة الاستثمار وبلدية الموصل وعقارات الدولة ومدير الدفاع المدني والكادر الأمني للجزيرة”.

وليس من المستبعد أن يدان المحافظ على سبيل التضحية به ككبش فداء لتهدئة غضب الأهالي والتغطية على مسؤولين أكبر منه وعلى سياسات خاطئة مورست على الموصل وأهلها طيلة سنوات وبشكل ممنهج.

وما تزال في أذهان من بقي حيا من أهالي المدينة كارثة غزوها من قبل تنظيم داعش في سنة 2014 وما جرّته من كوارث ومآسي غير مسبوقة، ما يزال المسؤولون المباشرون عنها، وعلى رأسهم رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، طلقاء يمارسون السلطة ويتمتّعون بامتيازاتها.

العرب