معمر فيصل خولي
في 24يوليو/ تموز عام 1923م،وقعت معاهدة لوزان للسلام، المعاهدة التي وضعت حدا للحرب العالمية الأولى، وفرضت تسوية سياسية نهائية بين تركيا من جهة وفرنسا وبريطانيا كدول منتصرة في تلك الحرب، من جهة أخرى. تعد معاهدة لوزان من أهم المعاهدات التاريخية التي شكلت معالم منطقة الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى. بل ذهب بعض المؤرخون لوصفها بأنها أهم معاهدة سلام في التاربخ الحديث؛ لإنها انهت طريق طويل لخطة الدول الاوروبية الاستعمارية سيما بريطانيا وفرنسا بفرض حل نهائي للمسألة الشرقية” الدولة العثمانية”، وكانت نتيجة مباشرة في نشأة الدولة التركية القومية الحديثة.ونتساءل اليوم وذلك، بعد مرور الذكرى الأولى بعد مئة عام على توقيع معاهدة لوزان: ما الظرف التاريخي وتداعياته الذي قاد إلى توقيع معاهدة لوزان التي كتبت شهادة وفاة الدولة العثمانية، وسجلت شهادة ميلاد الدولة التركية الحديثة؟
ما أن تخلت الدولة العثمانية عن حيادها الذي التزمت به في بداية الحرب العالمية الأولى، فقد اعلنت وقوفها إلى الجانب ألمانيا في الحرب،وإعلانها أيضًا الحرب على روسيا القيصرية في تشرين الأول/أكتوبر عام 1914م، وفي المقابل أعلنت بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية دخولها الحرب في تشرين الثاني/ نوفمبر من نفس العام.
هذا القرار العثماني المصيري شجع بريطانيا وفرنسا على الحاق الهزيمة بالدولة العثمانية وتقسيمها فيما بعد، ومن أجل ذلك حشدت بريطانيا كل طاقاتها العسكرية للوصول إلى اسطنبول عاصمة الدولة العثمانية.
وفي خضم الحرب بينما كانت تحتدم المواجهات على الجبهات العسكرية كان مندوبوا الحلفاء يجتمعون سرًا من أجل مفاوضات لوضع احتمالات تقسيم تركة الدولة العثمانية، وكان أهمها اتفاق سايكس بيكو بين فرنسا وبريطانيا ومصادقة كل من روسيا القيصرية وإيطاليا .بموجب الاتفاقية تم تقسيم الدولة العثمانية إلى مناطق نفوذ بين الحلفاء …
تسيطر فرنسا على معظم بلاد الشام ومنطقة الموصل شمال العراق وجنوب شرق الأناضول، في حين كان حصة بريطانيا بالسيطرة على منطقة جنوب بلاد الشام التي تشمل بغداد والبصرة وكافة الأراضي الواقعة بين الخليج العربي حتى حدود النفوذ الفرنسي. أما روسيا القيصرية فحظيت بعاصمة الدولة العثمانية اسطنبول ومضيقي البسفور والدردنيل، وكان نصيب ايطاليا جنوب غرب الأناضول.
وعلى الرغم بعض الانتصارات التي حققتها الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى ومنها الانتصار في معركة الدردنيل شباط /فبراير عام 1915م، فذلك لم يكن كافيا لتجنب الدولة العثمانية الهزيمة فيها، وقد تسببت الهزائم العسكرية القاسية والمتلاحقة على جبهة فلسطين ومصر والقوقاز على اجبار العثمانيون على توقيع معاهدة مودروس في تشرين الاول/ أكتوبر عام 1918، وهي هدنة اشبة بوثيقة استسلام للعثمانيون، وانتصارًا للحلفاء وبريطانيا التي احتلت اسطنبول عاصمة الدولة العثمانية.
ولتنفيذ بنود هدنة مودروس أرسل السلطان محمد السادس، قائده العسكري مصطفى كمال إلى الأناضول ليشرف بنفسه على على تفكيك الجيش العثماني في الأناضول، لكن مسألة التفكيك لم تسر وفق ما أراد السلطان أو أجبر عليه، لذا اعلنت حالة تمرد في الأناضول ضد الاحتلال الأوروبي، واعلن مصطفى كمال في عام 1919م، استقالته من الجيش لينضم إلى حركة التحرر الوطني من أجل تنظيمها وتوحيدها، وقد تمكنت حركة التحرر من تحقيق الانتصار في معظم المعارك التي خاضتها الأمر الذي أثار حفيظة الحلفاء الاروبيون، لذلك سارعوا في صياغة معاهدة سيفر في 10 آب/ اغسطس عام 1920م، التي وضعت النهاية الحتمية للدولة العثمانية، واعتمد في صياغتها على تقسميات اتقاقية سايكس بيكو من خلال الحفاظ على مناطق النفوذ الفرنسية والبريطانية والإيطالية.
أما اليونان الحليف الجديد فقد منحت غرب الأناضول ” أزمير والمناطق المجاورة لها” وذلك بدعم مباشر من قبل لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا الأسبق. تكونت معاهدة سيفر من 433 بندًا ، وأهم ما جاء فيها
1- اقامة اجزاء من الدولة الأرمنية على الأراضي التركية وذلك ضم بعض المحافظات كطرابزون
2- اقامة حكم ذاتي مستقل للأكراد.
3- اقامة وطني قومي لليهود في فلسطين.
4- الابقاء على اسطنبول تحت الحكم العثماني باسثناء مضيق البوسفور والدردنيل.
نظر السلطان العثماني في اسطنبول، إلى هذه البنود على أنها بنود فرضت على المهزوم الذي ليس بوسعه مقاومة المحتل في حال رفضها، بينما رأت الحركة الوطنية في أنقرة في قبول تلك البنود على إنها خيانة وطنية. انتهى هذا الخلاف في توقيع مندوبي السلطان على المعاهدة، لكنه فتح باب الانقسام والصراع الداخلي بين اسطنبول وأنقرة ومن يمثلهما.
ألهبت معاهدة سيفر الحركة الوطنية روح المقاومة وخاضت معارك التحرير ضد المحتل اليوناني في غرب الأناضول واستطاعت هزيمته في معظم المعارك التي دارت بينهما، وطرد المحتل من أزمير في أيلول/ سبتمبر عام 1922م، وهددوا في مهاجمة القوات البريطانية والفرنسية المتمركزة في جناق قلعة على مضيق الدردنيل الأمر الذي أدى إلى توقيع هدنة مودانيا في 11 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1922م.، تضمنت انسحاب اليونان من غرب الأناضول وتأجيل الخوض في مصير المناطق الخاضعة للحلفاء. يمكن القول أن الانتصارات التي حققتها الحركة الوطنية ما بين عامي 1919م -1922م، اجبرت الحلفاء وخاصة بريطانيا اجراء مفاوضات مع قادة الحركة الوطنية للوصول إلى تسوية سياسية تنهي ما تبقى من معارك الحرب العالمية الأولى.
فاتفق الطرفان على اللقاء في فندق “بوريفاج بلاس” بمدينة لوزان جنوبي سويسرا، جاء وفد الحركة الوطنية برئاسة عصمت اينونو إلى المفاوضات حاملًا معه وثيقة الحركة والتي تضمنت عدة مسائل أساسية بالنسبة للحركة أولًا : رفض قيام دولة أرمنية على الأراضي التركية. ثانيا: إلغاء الإمتيازات الأجنبية للدول الأوروبية التي كانت تمثل شكل من أشكال ضعف الدولة العثمانية، ثالثًا: تفرض تركيا سيطرتها على اسطنبول ومضيقي البسفور والدردنيل.
ولكي تفرض تركيا سيطرتها على المضائق اشترطت دول الحلفاء على الحركة الوطنية ثلاثة شروط أولا:أن تكون منطقة المضائق منزوعة السلاح، ثانيا: فتح المضائق أمام حركة المرور دون قيد، ثالثًا: تبق المضائق تحت إشراف دولي. إلى جانب هذه الشروط ، اشترطت ايضًا تخلي الحركة الوطنية عن ولاية الموصل وجاء هذا التخلي بضغط من مصطفى كمال الذذي أراد أن لا تكون ولاية الموصل منطقة صراع مع بريطانيا، ولكي أيضا لا توضع عراقيل أمام قيام الدولة التركية القومية الحديثة.
وبعد مفاوضات شاقة بين الدبلوماسية التركية والدبلوماسية الأوروبية تم تسوية معظم القضايا المتنازع عليها، وتخلّي تركيا عن جميع الحقوق والملكية التي تخص الأراضي الواقعة خارج حدودها الجديدة، وتمَّ توقيع المعاهدة في 24 يوليو/تموز 1923، وأُلغِيَت بموجبها اتفاقية “سيفر” وأنهت حالة الحرب الدائرة في الشرق.
احتوت المعاهدة على 143 بندًا كان أهمها الاعتراف باستقلال الجمهورية التركية وبالسيادة على أراضيها التي حدّدتها طاولة المفاوضات، ورسم الحدود مع البلاد المجاورة لها مع كل من اليونان وبلغاريا وسوريا والعراق.
تنازلت تركيا حتى عن الامتيازات في الولايات العربية، كما جاء في البند 17 حول تنازل تركيا عن جميع الامتيازات والحقوق في كل من مصر والسودان، وتنازلت أيضًا عن الامتيازات في ليبيا بموجب المادة 22. ومن ثمَّ تنازلت تركيا عن الموصل بعد حسم النزاع عبر عصبة الأمم، ووقّعت على اتفاق أنقرة مع المملكة العراقية وبريطانيا في يونيو/حزيران 1926.
وتضمنت المعاهدة بنودا تتعلق بتقسيط ديون الدولة العثمانية، التي استمرت تركيا في سدادها حتى عهد الرئيس الأسبق تورجت أوزال، ونصت معاهدة لوزان على حماية الأقلية المسيحية الأرثوذكسية اليونانية بتركيا والأقلية المسلمة باليونان، وألزمت الحكومة التركية بالمحافظة على حياة وحقوق وحرية جميع المواطنين ضمن أراضيها، وبمساواتهم أمام القانون بغض النظر عن الأصل والقومية واللغة والدين.
ومن أهم الآثار السياسية المترتبة على “معاهدة لوزان أنها كرست تناسي الكرد وحقوقهم حين تجاهلت منحهم الحكم الذاتي، كما نصت عليه “معاهدة سيفر”. وهو ما كان بداية لقضيتهم التي أصبحت مصدر قلق وتوتر للعديد من دول المنطقة وازدادت تعقيدا مع مرور الأيام، تاركة آثارا سياسية وإنسانية كبيرة وخطيرة. كما تجاهلت حقوق العرب في تأسيس دولة عربية تلبي طموحاتهم القومية، ليجدوا انفسهم بموجب اتفاقية سايكس بيكو قابعين تحت الانتداب الفرنسي والبريطاني.
أعلنت الجمهورية التركية استقلالها في 29 تشرين الأول/ أكتوبر 1923؛ مدشنة بداية جديدة كدولة قومية، مُنهيةً بذلك علاقتها بالدولة العثمانية بكافة ارتباطاتها، وخاصة بالعالم العربي، بعد قرونٍ من الحكم العثماني. بعد مرور قرن على معاهدة لوزان، لا تزال هذه المعاهدة محطة إثارة للجدل في تركيا وخارجها؛ إذ نشرت صحف ومواقع بعضا من هذا الجدل؛ مثل احتوائها على بنود سرية تتعلق بالبترول والغاز، وجدل آخر حول انتهاء صلاحيتها بعد مرور 100 عام، وهو أمر لا يمت إلى المعاهدة بأي صلة.
يرى بعض المؤرخون بأن معاهدة لوزان كانت معلمًا مهمًا في القرن العشربن، إذ كانت صك الاعتراف بالانتصارات التركية في حرب التحرير والاستقلال، ومكنت تركيا طوال السنين من الحفاظ على وحدتها القومية والجغرافية رغم موقعها الحساس بين الشرق والغرب، بينما ترى شريحة واسعة من الأتراك بأن معاهدة لوزان سلبت تركيا كثيرًا من أراضيها العثمانية، وسمحت بالاستيلاء على ممتلكاتها خارج حدودها الجديدة. ويتساءلون هل كانت لوزان نصرًا أم هزيمة؟
وحدة الدراسات التركية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية