مقدمة في القانون الدولي
بدأت دول العالم تنظم العلاقات فيما بينها منذ مؤتمر السلام في وستفاليا عام 1648 بعد حرب الثلاثين سنة بين الدول الأوروبية، حيث أصبحت الدولة المستقلة ذات السيادة هي حجر الأساس في العلاقات الدولية. واستمر المجتمع الدولي في تطوير مجموعة من المعاهدات والاتفاقيات الدولية لتوسيع المفاهيم المشتركة والمسلكيات المقبولة في العلاقات بين الدول بهدف عدم اللجوء إلى القوة في حسم الخلافات. فبينما يختص القانون الوطني بعلاقة الأفراد فيما بينهم وعلاقتهم ببلدهم، تختص القوانين الدولية بالعلاقة بين الدول في حالتي السلم والحرب، وبينها وبين المنظمات الدولية.
ومع إنشاء الأمم المتحدة واعتماد ميثاق الأمم المتحدة في 24 تشرين الأول/اكتوبر عام 1945 دخلت العلاقات الدولية مرحلة جديدة تتميز بايجاد آليات لحسم النزاعات بين الدول وامكانية الالزام وفرض العقوبات على المعتدين ومنتهكي القانون الدولي وخاصة مرتكبي جريمة العدوان واستخدام القوة.
ونستطيع أن نلخص أهم قواعد القانون الدولي في خمس أساسية: احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، واقامة علاقة ودية وحسن جوار بين الدول وحل النزاعات بالطرق السلمية بعيدا عن استخدام القوة أو التهديد باستخدامها والمساواة في الحقوق والواجبات بين الدول صغيرها وكبيرها.
احتلال أراضي الغير في القانون الدولي
لم يمنع إنشاء الأمم المتحدة من حدوث الحروب والنزاعات ووقوع أراض تحت الاحتلال وانتهاكات خطيرة للقانون الدولي. فقد أشعلت الحروب الكبرى والصغرى 200 مرة على الأقل، وتم احتلال دول وتغيير حدودها وارتكبت المجازر في أكثر من مكان وجرت عمليات تطهير عرقي واجتثاث للأقليات وغيرها الكثير. لقد تعاملت الأمم المتحدة، وبالتحديد مجلس الأمن الدولي، مع قضايا الحروب والاحتلال بقدر ما سمح لها من قبل الدول الخمس دائمة العضوية. فمثلا احتلت روسيا أفغانستان واحتلت فيتنام كمبوديا واحتلت الولايات المتحدة غرانادا واحتلت الهند وما زالت كشمير واحتلت إيران ثلاث جزر إماراتية عام 1971 واحتلت اريتريا جزر حنيش اليمنية وأخلتها بعد رأي محكمة العدل الدولية لصالح اليمن واحتل النظام العراقي الكويت عام 1990 ومعروف كيف تعامل المجلس مع تلك الحالة النادرة. واحتلت إسرائيل سيناء والضفة الغربية وغزة والجولان السوري عام 1967. فإسرائيل إنشئت وتمددت بالاحتلال ولا تعيش يوما دون أن توسع احتلالاتها التي لا تتوقف. فلا توجد دولة في العالم مثلت الاستهتار الأكبر بالقانون الدولي أكثر من إسرائيل بسبب مظلة الحماية التي وفرتها الدول الغربية لها، بريطانيا وفرنسا أولا ثم الولايات المتحدة.
يشير القانون الدولي بالنسبة لوقوع أراض تحت الاحتلال إلى ثلاث مسائل: مسؤولية القوة القائمة بالاحتلال، ومسؤولية وحقوق وواجبات السكان الواقعين تحت الاحتلال وكذلك وضع الأرض القانوني تحت الاحتلال. ويقر القانون الدولي مبدأ لا خلاف عليه وهو «عدم جواز ضم أرض بالقوة» وهذا ما يفسر عدم اعتراف أي دولة في العالم بضم إسرائيل للجولان والقدس والضفة الغربية وغزة بما فيها الولايات المتحدة إلى أن وصل التاجر المغرور دونالد ترامب إلى البيت الأبيض فتغيرت قواعد التعامل مع القانون الدولي تماما بالنسبة للإدارة الأمريكية.
وسنسلط الضوء هنا على قرار ترامب الذي أهداه لصديقه نتنياهو يوم الإثنين الماضي 25 اذار/مارس بالاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان المحتل من منظور القانون الدولي:
أولا – القرار انتهاك لميثاق الأمم المتحدة
عام 1945 اعتمد المجتمع الدولي ميثاق الأمم المتحدة في محاولة جديدة بعد فشل عصبة الأمم، لوضع القيود على عدد من مسلكيات الدول التي أثبتت أنها قادرة على زعزعة استقرار النظام الدولي قبل الحرب العالمية الثانية. كان من أهم تلك المسلكيات اللجوء إلى القوة والتهديد باستخدامها وضم الأراضي عن طريق استخدام القوة العسكرية. وتنص المادة الرابعة من الفصل الأول للميثاق على: «يمتنع أعضاء الهيئة جميعاً في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة». هذا هو المبدأ الرئيسي الذي تستند إليه الكثير من القواعد التي تحكم نظامنا الدولي والتي يمكن القول بأن قرار ترامب يعتبر انتهاكا صارخا لهذه المادة. والميثاق يلزم الدول الموقعة عليه باحترامه كشرط من شروط العضوية.
ثانيا – القرار انتهاك لقرارات مجلس الأمن
تنص المادة 25 من ميثاق الأمم المتحدة على: «يتعهد أعضاء الأمم المتحدة بقبول قرارات مجلس الأمن وتنفيذها وفق هذا الميثاق». فقرارات مجلس الأمن ليست فقط لتسجيل المواقف بل لتثبيت موقف دولي رسمي من المسألة قيد البحث والتي تصبح ملزمة للدول الأعضاء ويجب احترامها.
وهضبة الجولان المحتلة كانت مشمولة بالقرار 242 (1967) الذي اعتمد في أعقاب حرب الخامس من حزيران/يونيو 1967 والذي ينص في ديباجته على «عدم القبول بالاستيلاء على أراض بواسطة الحرب» كما يدعو إسرائيل إلى الانسحاب من الأراضي المحتلة مقابل سلام شامل يؤدي إلى الاعتراف بحق جميع الدول بالعيش ضمن حدود آمنة ومعترف بها وحرة من التهديد. وعاد مجلس الأمن واعتمد القرار 338 (1973) الذي يدعو إلى ما دعا إليه بالضبط القرار 242. لكن إسرائيل كعادتها لم تعر القرارين أي انتباه.
وفي تاريخ 14 كانون الأول/ديسمبر 1981 أعلنت إسرائيل فرض قوانينها وسلطاتها وإدارتها على مرتفعات الجولان. لكن مجلس الأمن اعتمد بالإجماع القرار 497 يوم 17 من نفس الشهر الذي اعتبر ذلك ملغيا وباطلا ومن دون فعالية قانونية على الصعيد الدولي بل وطالب القرار إسرائيل، القوة المحتلة، بإلغاء القرار وذكّرها بأن اتفاقية جنيف الرابعة المعتمدة عام 1949 ما زالت سارية المفعول على الأراضي السورية المحتلة من قبل إسرائيل عام 1967. والأهم من ذلك أن القرار حمل شيئا من التهديد لإسرائيل، حيث نص في فقرته العاملة الرابعة على دعوة الأمين العام تقديم تقرير حول تنفيذ القرار خلال أسبوعين «ويقرر في حال عدم امتثال إسرائيل يجتمع مجلس الأمن بصورة استثنائية وفي مدة لا تتجاوز 5 كانون الثاني/يناير 1982 للنظر في اتخاذ الإجراءات الملائمة بموجب ميثاق الأمم المتحدة».
إسرائيل لم تكترث بالقرار وعادت لتؤكد على ضمها للجولان. فقد اجتمعت الوزارة الإسرائيلية يوم 17 نيسان/أبريل 2018 في مرتفعات الجولان لأول مرة وأعلن بعدها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بكل عنجهية أن إسرائيل ستبقى بشكل دائم في المرتفعات وأنها لن تتخلى عنها وإلى الأبد. وذهب به الصلف بعيدا ليطالب المجتمع الدولي أن يعترف بالأمر الواقع وقدم أسبابا سخيفة لهذا الموقف من بينها العثور على بعض القطع الأثرية اليهودية في الهضبة. ولو تطبق هذه الحجة لأعيد نصف القارات القديمة الثلاث لسيادة روما.
ثالثا – القرار انتهاك لقرارات الجمعية العامة
قامت الجمعية العامة عبر قراراها 36/226 يوم 17 كانون الأول/ديسمبر 1981 بإدانة قرارا إسرائيل بضم الجولان وبناء مستوطنات في المرتفعات المحتلة. وقد كررت الجمعية العامة سنويا اعتماد قرار يعتبر الجولان أرضا سورية محتلة ويطالب إسرائيل بإنهاء احتلالها لها. وكان آخر هذه القرارات القرار 23/73 يوم 1 كانون الأول/ديسمبر 2018 حيث طالبت الجمعية العامة إسرائيل بالانسحاب من كامل الجولان السوري المحتل، إلى خط الرابع من حزيران/يونيو 1967، تنفيذا لقرارات مجلس الأمن ذات الصلة. وقد حصل ذلك القرار على تأييد 99 دولة، مقابل اعتراض 10 دول، وامتناع 66 دولة عن التصويت. ولا يقللن أحد من أهمية قرارات الجمعية العامة فهي أحد مصادر القانون الدولي المهمة والتي تعتبر أيضا مرآة تعكس توجهات المجتمع الدولي بغالبية أعضائه.
رابعا – القرار مخالف للعرف الدولي
بقيت سياسة الولايات المتحدة متسقة إلى حد ما ولو لفظيا باعتبار الأراضي العربية التي احتلت عام 1967 أراضي محتلة تحل بين الأطراف بالمفاوضات. وكانت السياسة الأمريكية بشكل عام منسجمة مع القانون الدولي في قضايا الاحتلال الأخرى. فعندما احتل الاتحاد السوفييتي أفغانستان عام 1979 حشدت الولايات المتحدة كل أسباب المواجهة ضد انتهاك القانون الدولي واحتلال بلد مستقل بالقوة المسلحة. وعندما احتل العراق الكويت عام 1990 لجأت الولايات المتحدة فورا لمجلس الأمن واعتمدت القرار 660 يوم 2 آب/أغسطس تحت الفصل السابع لإنهاء الاحتلال ومطالبة القوات العراقية بالانسحاب الفوري غير المشروط. وعندما سيطرت روسيا على شبه جزيرة القرم التابعة لأوكرانيا عام 2014 اعتبرت الولايات المتحدة أن هذا «الاحتلال» غير شرعي ويجب أن ينتهي وأن السيادة تظل لأوكرانيا. فكيف من يرفض تلك الاحتلالات يعود ويشرعن غيرها؟ إذن التناقض في الموقف الأمريكي واضح ولا يحتاج إلى العديد من الاثباتات. فعندما يوافق القانون الدولي مصالح الولايات المتحدة يكون جيدا ويستحق التطبيق وعندما لا يتفق مع مصالحها فتدوس عليه بعنجهية. وهذا ما يجب ألا يقبل من المجموعة الدولية فالقانون الدولي ليس قائمة طعام تختار منها ما يطيب لك، بل قواعد وقوانين وأعرافا معتمدة ثبتتها الخبرة الإنسانية عبر مجموعة من المواثيق والمعاهدات والقرارات الدولية والتي يبج أن تحترم وتنفذ.
إن ما قام به ترامب هو تصرف أرعن جاء في سياق قانون القوة وانصياع إدارته لإملاءات اليمين المتطرف في إسرائيل والولايات المتحدة. ترامب يحاول تصفية القضية الفلسطينية وقضية الصراع العربي الإسرائيلي مستغلا الوضع الفلسطيني المنهك والضعيف والوضع العربي المتسابق نحو التطبيع أو الانشغال في الحروب الداخلية. فبعد الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل والاعتراف بضم الجولان سيأتي دور الاعتراف بضرورة ضم الضفة الغربية أو معظمها من أجل أمن إسرائيل. ولو أراد العرب أن يردوا على ترامب بشكل جاد وحقيقي فليعلنوا في القمة العربية أن فلسطين كل فلسطين هي أرض عربية لا يغير من هويتها لا بلفور ولا ترامب.
القدس العربي