حفلت الأسابيع والأيام القليلة الماضية بأخبار تعيد التذكير بالدور الوازن الذي لعبته الجيوش العربية منذ فترة ما بعد استقلال الدول العربية في التحكّم بمصائر الدول، وكانت العادة أن يقوم قائد الجيش أو وزير الدفاع أو ضابط مغامر كبير بانقلاب على حكومة منتخبة زاعما الدفاع عن مصالح الجماهير، ومحاربة الفساد، أو محاربة إسرائيل، أو العمل على الوحدة العربية، أو الإسراع بتحديث البلاد وتغييرها، والأسوأ من كل ذلك هم الضباط الذين يتحدثون عن إحقاق الحقوق وتحصين الحريات أو الدفاع عن كرامة البشر، وهم الذين لم ينتخبهم أحد، ولا يعرف أحد اتجاهاتهم السياسية ولكن الجميع يعلمون أنهم طامعون بالسلطة، وأنهم سيعاملون الناس كما يعاملون جنودهم، وحفظ الناس مسلسل قيامهم باحتلال الإذاعة والتلفزيون ليذيعوا بيانهم رقم واحد مع خلفية من المارشات العسكرية ثم تعليق الدساتير وحظر الأحزاب ويوقفوا العمل بالبرلمان والانتخابات وفرض الأحكام العرفية ثم تسمية ما يقومون به من انقلابات «ثورات شعبيّة».
تغيّر الأمر بعد ثورات «الربيع العربي»، فشهدنا ثورات شعبيّة حقيقية على الجيوش وحكّامها، وراقبنا الحالة الفريدة لسوريا التي يطبق النظام فيها على الجيش ويقود أشخاص من العائلة الحاكمة والأقارب فرقاً عسكرية منه، ورغم ممارساته الوحشيّة ضد الناس الذين يفترض أن يحميهم فقد اهتزّ النظام وشارف على السقوط أكثر من مرة فكان أن استدعى تدخّلا خارجيا أدى لاحتلال إيراني وروسي لبلاده.
شهدنا أيضا الحالة الليبيّة التي تماسك فيها الجيش أيضاً وكان على أهبة القيام بفظائع أيضاً لكنّ المنظومة الدوليّة تدخّلت جوّياً فسقط النظام نظريّا لكنّه عاود لاحقاً تجميع صفوفه تحت قيادة الجنرال خليفة حفتر، الصديق اللدود لمعمر القذافي، الذي يكمل حاليّا الحرب التي بدأها زعيم ليبيا السابق ليقوم بدفن أخير لنتائج الثورة.
أما في الحالة المصريّة فقد قام الجيش بحالة كمون وتراجع إثر الثورة التي أسقطت رئيسه حسني مبارك، وبعد انتخاب الرئيس محمد مرسي، المحسوب على جماعة «الإخوان المسلمين»، بدأت المؤسسة العسكرية تتآمر بشكل مفضوح على الحكومة والرئيس المنتخبين، واجتمع تخاذل النخب السياسية مع الاستثمار الماليّ لدول عربية مضادة للثورات لينهي تجربة من أهم التجارب السياسية العربية بمجزرة دمويّة بشعة في ميداني رابعة والنهضة.
ولعلّ الجيش المصري ومن وراءه اعتبروا أن الرسالة البليغة قد وصلت كل الشعوب العربيّة وستمنعها بالتالي من التجرؤ على أسيادها الجنرالات ومموليهم وحماتهم الإقليميين والخارجيين لكنّ ما حصل في الجزائر والسودان في الشهور القليلة الماضية كان مفاجأة كبيرة للجيوش وكذلك للشعوب نفسها التي اكتشفت من جديد قدراتها على صنع الأحداث وفرض التغيير الحقيقي وليس المزاعم الكاذبة التي يكرّرها العسكريون منذ قرابة سبعين عاما.
يذكّر ما يفعله قادة الجيشين الجزائري والسوداني حاليّا ببيت أبي الطيب المتنبي الشهير: «إذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنن أن الليث يبتسم»، فبعد فشل الجيشين في إخافة الشعوب بتذكيرها بـ«السيناريو السوري»، أو في إعادة «الجنّي إلى القمقم» بنفخه بالآمال الكاذبة، رأينا خطابات هجينة تتراوح بين التهديد المبطّن والوعود المبالغ فيها، والحقيقة أن الجماهير التي تملأ الشوارع في الجزائر والسودان ملّت من الوعود ولم تعد تخاف من التهديدات، وقد اكتشفت أن قواها المنظمة في الشارع تملك أيضاً أنيابا تبرزها لا للتبسّم فحسب.
القدس العربي