في الرابع من أبريل/نيسان الحالي، وعلى بُعد كيلومترات إلى الغرب من مدينة فينيكس، عاصمة ولاية أريزونا الأميركية، حيث تقع قاعدة “لوك” الجوية، وصلت طائرتان حربيتان من طراز لوكهيد مارتن “إف 35” مطبوع على ذيلهما علم تركيا، لتصبحا ثالث ورابع طائرة من ذلك الطراز تحمل العلم التركي في “أريزونا” بانتظار استلام تركيا رسميا لتلك الدُّفعة الأولية من “إف 35” على أراضيها، والتي تنوي أنقرة الحصول على مئة طائرة منها على مدار السنوات المقبلة، باعتبارها واحدة من تسع دول فقط بالعالم شاركت منذ البداية في مشروع إنتاجها، إلى جانب الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وأستراليا وهولندا وإيطاليا والدنمارك والنرويج.
لكن تركيا واحدة من ثلاث دول مساهمة في مشروع “إف 35” لم يُسمح لها بعد بحيازة الطائرات على أرضها، ولا يبدو أنها ستتسلمها في وقت قريب رُغم الموعد المفترض بنهاية العام، وذلك على الرغم من وصول الطائرة بالفعل إلى مشترين آخرين لم يساهموا في إنتاجها مثل إسرائيل واليابان، وتعاقد كوريا الجنوبية وبلجيكا وفنلندا كذلك لشرائها خلال الأعوام المقبلة، حيث تستمر أجواء التوتر في العلاقات التركية الأميركية بشكل عام، وفيما يخص ملف صفقة تركيا مع روسيا لشراء منظومة الدفاع الجوي “إس 400” بشكل خاص، والتي يتوقع الأتراك استلام أول دفعة منها هذا العام أيضا.
يبدو الأتراك دوما واثقين من قدرتهم على تسيير دفة العلاقات المعقدة والمتعارضة أحيانا مع قوى دولية وإقليمية كبرى، فهُم يقتربون من موسكو بينما لا تزال عضويتهم راسخة في حلف الناتو، وينسقون مع طهران بينما يستمر دعمهم على الأرض لأعدائها في سوريا، ويدعمون حركة “حماس” في حين تستمر القنوات الرسمية المفتوحة بينهم وبين الإسرائيليين، بيد أن عالم السلاح الصلب والحساس في آن لا يسير بنفس تلك الانسيابية في عبور خطوط الصداقة والعداوة جيئة وذهابا كما احترفت الدبلوماسية التركية منذ عقود لا سيما العقد الأخير، إذ إن هنالك مفترق طرق قادما سيتحتم على أنقرة الاختيار فيه بين الدفاع الجوي الروسي أو الطائرة الأميركية الأحدث، وهو اختيار مفصلي فيما يخص مستقبل التسليح التركي خصوصا، وموقعها الإستراتيجي بين الشرق والغرب عموما.
هل تطير “إف 35” في سماء “إس 400″؟
عشر سنوات تقريبا احتاجت إليها شركة “لوكهيد مارتن” الأميركية قبل أن تخرج أول طائرة “إف 35” إلى النور، أُضيف إليها عشر سنوات أخرى ليبدأ الإنتاج والتطوير الموسع للطائرة بالتعاون مع حلفاء الناتو، ومن ثم تشرع الولايات المتحدة بالتدريج في تسليم إنتاجها إلى تلك الدول، وهي أعوام تجاوزت فيها تكلفة المشروع بأكمله التريليون دولار. وتحتوي طائرات “إف 35” على محرّك طُوِّر خصيصا من أجلها بإمكانه الوصول إلى سرعة ألفي كيلومتر في الساعة، وهي سرعة تتجاوزها بسهولة طائرات أخرى، لكن دون أن تمتلك قدرة الـ “إف 35” على المناورة بينما تحتفظ بسرعتها العالية. (1)
وتتميز الطائرة، بعيدا عن مواصفاتها الدينامية، بتطوّر ملحوظ في التقنية الموجودة بها، والتي تتيح لها الإفلات من معظم أجهزة الرادار التي تلتقط الطائرات الأميركية الأقدم منها، علاوة على نظام استشعار عن بُعد مدمج في منظومة تغذي الطيارين بالمعلومات المباشرة، مما يتيح لهم رؤية حية لأرض المعركة بالتفصيل، وهي كلها إمكانيات تقنية مرتكزة لمعالج بيانات متطور يستطيع القيام بأربعمئة مليار عملية في الثانية الواحدة. (2)
على الناحية الأخرى من الأرض، وحيث يوجد الروس على نطاق جغرافي واسع ومتاخم لحلفاء الناتو، تحظى منظومات الدفاع الجوي وتطويرها لديهم باهتمام شديد، وقد كانت أشهرها خلال الحرب الباردة منظومة “إس 300” التي شهدت تحديثات عديدة حتى بدأ تطوير خليفتها “إس 400” خلال التسعينيات، وتتمتع الأخيرة بنظام رادار يغطي مسافة ستمئة كيلومتر، علاوة على نطاق عمل للصواريخ الخاصة بها يمتد لأربعمئة كيلومتر، وكذلك مرونتها وسرعتها في التنقل وإطلاق الصواريخ من أنواع مختلفة في الوقت نفسه، ومن ثم تصبح “إس 400” إضافة قوية لأي ترسانة دفاعية، لا سيّما لدولة بموقع تركيا الجغرافي، إلا أن هنالك إشكالية لدى الدول الرئيسة في التحالف الغربي تكمُن في التعارض بين تشغيل “إس 400” في أجوائها بالتوازي مع أحدث أنواع العتاد الغربي، وأهمها طائرة “إس 35”. (3)
يكمُن التعارض الرئيسي في امتلاك تركيا -أو أي بلد- لطائرات “إف 35” جنبا إلى جنب مع “إس 400” في إمكانية كشف أجهزة الرادار الروسية للطائرات الأميركية، وتعقبها، والتعرّف على المواصفات القتالية لها بعد أن يستخدمها الجيش التركي لفترة طويلة بينما يقوم نظام “إس 400” بحماية الأجواء نفسها التي ستطير فيها، بالإضافة إلى إمكانية تضليلها من جانب الروس إذا ما تم التعرّف على الموجات المشفّرة التي تستخدمها للتواصل مع أنظمة السلاح “الصديقة” التي تملكها دول حلف الناتو، وهي كلها مخاطر قد تقلل من كفاءتها في أي مواجهة أميركية روسية محتملة في المستقبل؛ حين يصبح الروس أكثر دراية بإمكانياتها القتالية، أو أي مواجهة بين حلفاء الولايات المتحدة من ناحية وأعدائها من ناحية، سواء تلك الأنظمة التي تدعمها روسيا مباشرة مثل سوريا أو بيلاروسيا، أو من يمتلكون السلاح الروسي مثل الصين وكوريا الشمالية، فضلا عن أي مواجهة بين تركيا نفسها وروسيا في أي منطقة قد ينشب فيها النزاع بينهما؛ وهي مناطق ليست بالقليلة وتمتد من سوريا حتى البحر الأسود.
علاوة على ذلك، تستخدم طائرات حلف الناتو منظومة إلكترونية دقيقة للتعرّف على الطائرات الصديقة من العدوة في أي مجال جوي تطير فيه تُعرَف بـ “IFF”، وهي منظومة سيحتاج الأتراك إلى تركيبها ودمجها بنظام الدفاع الصاروخي الروسي؛ لكي تتمكن طائرات “إف 35” التركية من الطيران في أجواء تركيا إن كان يحميها النظام الروسي الدفاعي دون أن يتم استهدافها كطائرة عدوّة؛ وهما تركيب ودمج قد يُشكّلان خطرا أيضا على نظام “IFF” وإمكانية اختراقه من جانب المشغلين الروس، لا سيّما وأن الاختراق المعلوماتي والأمني بات يُشكّل ركيزة من ركائز الإستراتيجية الروسية تجاه دول الناتو في السنوات الأخيرة.
لا يقتصر الأمر على تشكيل “إس 400” لأخطار عديدة على الطائرات نفسها، بل ويمتد كذلك إلى منظومة البيانات الحساسة التي ستتصل بها “إف 35” لتكون جزءا من شبكة معلوماتية تتصل مع غيرها من الطائرات المملوكة لحلف الناتو، وكذلك السفن، وربما بأي تحركات عسكرية برية تتم على الأرض، إذ إن كل ذلك سيكون متصلا ببعضه فيما يُعرف بـشبكة “لينك 16″، ليتمكن حلفاء الناتو معا من مشاركة المعلومات العسكرية بشكل مباشر أولا بأول؛ والتحرك وفقها لا سيما في معارك تجري على الأرض بالفعل. ومرة أخرى سيضطر الأتراك إلى دمج نظام “لينك 16” بـ”إس 400″، مما يُشكّل خطرا معلوماتيا كبيرا بالنظر لإمكانية اختراق الروس لـلشبكة عن طريق زرع برنامج في نظام توجيه بطاريات الـ “إس 400” الذي ستتسلمه تركيا، مما يعني تعريض كم هائل من المعلومات العسكرية الحساسية لحلف الناتو لخطر اختراق إلكتروني روسي لا ينتهي. (4)
واشنطن-أنقرة.. الضرر المتبادل
في يوليو/تموز 2017، قامت الولايات المتحدة بتمرير قانون “مواجهة الخصوم الأميركيين عبر العقوبات” المعروف اختصارا بـ”كاستا” (CAASTA)، والذي ينُص في أحد بنوده على فرض عقوبات اقتصادية على الدول، أو الشركات أو الأشخاص، التي تقوم بتعاقدات كبيرة مع كيانات مرتبطة بالقوات المسلحة الروسية، كما قام الرئيس الأميركي دونالد ترامب في أغسطس/آب للعام الماضي باعتماد قانون إقرار الدفاع الوطني لميزانية 2019، وهو قانون تضمن الإشارة إلى تركيا بشكل خاص، وألزم وزارة الدفاع الأميركية بإصدار تقرير يقيّم الوجود الأميركي العسكري والسياسي في تركيا، وكذا تقييم نية تركيا لشراء “إس 400” وآثارها على أنظمة السلاح الأميركية الموجودة على أراضيها، وأيضا مشاركة تركيا في مشروع “إف 35” وماهية الخطوات الممكن اتخاذها للتخفيف من الآثار السلبية لاستبعادها إن تم ذلك، وأخيرا البدائل المطروحة لمنظومة “إس 400” والتي يمكن تقديمها لأنقرة من جانب واشنطن ودول حلف الناتو، وقد نص القانون على عدم تسليم تركيا طائرات “إف 35” قبل أن يصل للكونغرس ولجانه المعنية التقرير المذكور، وكانت تلك أول مرة تُطرح بوضوح نية البحث عن بديل لتركيا في مشروع “إف 35” واستبعادها منه. (5)
ستكون تركيا بالطبع متضررا رئيسا من أي قرار أميركي باستبعادها من مشروع “إف 35،” ليس فقط لحرمانها من التمتع بالتكنولوجيا المتقدمة للطائرة، ومميزات التشغيل المشترك لها مع كبرى دول العالم والمعلومات العسكرية المهمة التي سيتم تداولها بينهم، بل ستكون هنالك خسارة اقتصادية أيضا، إذ إن تركيا تقوم بتوريد أكثر من ثمانمئة جزء من أجزاء الطائرة لصالح شركة “لوكهيد مارتن” بعقود مالية ضخمة، وهي عقود ستمنحها واشنطن لدول أخرى شريكة في البرنامج إن استبعدت أنقرة، مما سيتسبب في خسارة مالية للأخيرة بالنظر لضلوع أكبر شركات التصنيع العسكري التركي في المشروع مقابل مليارات الدولارات؛ وهي ضربة ستكون مكلّفة إن حدثت لا سيما في ظل الوضع الاقتصادي التركي المتأزم حاليا.
لكن الأتراك لن يتضرروا وحدهم، بل سيتضرر الأميركيون كذلك كما قال (6) وزير الدفاع الأميركي السابق “جون ماتيس” في خطاب للجنة التسليح بالكونغرس الأميركي في يوليو/تموز الماضي أثناء توليه لمنصبه، إذ أشار ماتيس إلى أنه إذا ما استُبعِدَت تركيا من المشروع فإن واشنطن ستتأخر في تسليم 50 إلى 75 “إف 35” للحلفاء، علاوة على فقدان عام ونصف أو عامين سيتم فيهما إعادة هيكلة خطوط الإنتاج التي شاركت فيها تركيا لصالح شركاء آخرين قبل معاودة الإنتاج بشكله الطبيعي. وفي هذا الصدد، أشار (7) السفير الأميركي السابق لدى تركيا “أريك إدلمان” -أوائل الشهر الحالي- إلى أن أردوغان يراهن على تراجع واشنطن عن استبعاد تركيا في نهاية المطاف، بالنظر للدور المهم الذي لعبته في إنتاج الطائرة، وقد كانت وجهة نظر أريك لها ما يرجحها سابقا، إلا أنه يبدو رهانا في غير محله الآن بعد المقال المشترك لبعض أهم أعضاء الكونغرس والذي نُشر خلال الأسبوع الماضي في صحيفة نيويورك تايمز، بالتزامن مع تصريح واضح لوزير الخارجية الأميركي “مايك بومبيو” منذ أيام قليلة، فيما يبدو وأنه موقف أميركي يضع أنقرة على مفترق طرق بين الطائرة الأحدث في العالم، وبين إحدى أقوى منظومات الدفاع الجوي التي ابتكرها الإنسان في عالم ما بعد الحرب الباردة وحتى الآن.
مفترق الطرق.. ماذا بعد؟
أتت الرسالة في التاسع من أبريل/نيسان الحالي بكل وضوح وعلى مسمع ومرأى الجميع، وهي رسالة وصلت للمسؤولين للأتراك على الأرجح بالوضوح نفسه على مدار الأيام الماضية، قبل أن يقرر الأميركيون نشرها أيضا في صحيفة نيويورك تايمز بمقال (8) عنوانه الصريح “إما الإف 35 أو الإس 400، وليس كلاهما معا”، في إشارة صريحة إلى حتمية اختيار أنقرة بين الاثنين. ولم يكن المقال مجرد مقال رأي كتبه أحد المحللين مثلا، وإنما اكتسب أهميته من أنه مقال خطّه أربعة من أعضاء الكونغرس المهمين وهم؛ “جون إينهوف” السيناتور الجمهوري الذي يرأس لجنة التسليح بالكونغرس، و”جاك ريد” السيناتور الديمقراطي العضو باللجنة نفسها، و”جيم ريش” السيناتور الجمهوري الذي يترأس لجنة العلاقات الخارجية بالكونغرس، و”بوب منِنديز” السيناتور الديمقراطي العضو باللجنة نفسها.
“بنهاية العام، ستكون تركيا قد حسمت خيارها بين حيازة الطائرة المقاتلة المتطورة إف 35 على أراضيها، أو نظام الدفاع الصاروخي أرض-جو إس 400 الروسي، لكنها لن تمتلك كليهما معا، وسيكون لخيار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تبعات هائلة على موقع بلاده من العالم، وعلى علاقتها بالولايات المتحدة، وما تمثله في حلف الناتو”.
بتلك الفقرة، افتتح الأعضاء الأربعة مقالهم القصير، مشيرين بوضوح إلى أن تركيا ستخضع للعقوبات الاقتصادية التي يقررها القانون الأميركي “كاستا”، وهو ما “سيضرب اقتصادها بقوة” حد قولهم طاردا عنها استثمارات أجنبية ضخمة ومؤثرا بالسلب على صناعتها الدفاعية والجوية، إضافة إلى ذلك فلن تحصل تركيا بطبيعة الحال على أي طائرة “إف 35″، وسيتم استبعاد شركاتها كافة من خطوط الإنتاج لكافة أجزائها كما ذكرنا، وستذهب المليار وربع المليار التي استثمرتها في المشروع هباء، ومن ثم “ستتحطم آمال الرئيس أردوغان في تحوّل الصناعة العسكرية التركية إلى ركيزة أساسية للنمو الاقتصادي في المستقبل” كما يقول المقال.
ثم أتى تأكيد وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو على موقف بلاده كذلك بتصريح أدلى به لعضو لجنة العلاقات الخارجية بالكونغرس حول استحالة تشغيل الطائرة “إف 35” في أجواء تعمل فيها منظومة الدفاع الروسية “إس 400،” مشيرا إلى أن الأميركيين أوضحوا لنظرائهم في أنقرة طبيعة تلك “الإشكالية التقنية” كما سماها عبر قنواتهم الدبلوماسية والعسكرية (9)، وهي تصريحات كلها تأتي أعقاب تمرير قانون بالكونغرس الأميركي يقضي بعدم تسليم تركيا أي طائرة “إف 35” حتى تتأكد واشنطن من عدم إتمام صفقة “إس 400”. (10)
تستمر تركيا إذن في رهانها حتى اللحظة على قبول الأميركيين بنوع من التوفيق بين وجود “إس 400″ و”إف 35” داخل المجال الجوي نفسه، ويستمر الأميركيون في الإصرار على أن ذلك مستحيل لأسباب تقنية وأمنية محضة حد تصريحاتهم، ورُغم إشارة مسؤولين أتراك إلى وجود منظومة “إس 300” الأقدم لدى اليونان وهي دولة عضو بحلف الناتو، فإن الموقف الأميركي حاليا -في ظل تصاعد التهديد الروسي وتشعب الدور الذي تلعبه الإلكترونيات والاتصالات في الحروب- هو أن “إس 400” بالتحديد خط أحمر، وبالأخص في بلد مثل تركيا يُعَدّ مركزيا للعمليات العسكرية الأميركية بالشرق الأوسط، وقريبا جدا من دوائر تُشكّل فيها روسيا تهديدا لحلف الناتو، وللمفارقة، لتركيا أيضا.
كعادتهما، يأتي الافتراق بين الأتراك والأميركيين دوما حين يسير الأتراك خلف رؤيتهم الخاصة لأنفسهم كدولة مركزية في الإقليم، وليس مجرد دولة مفصلية في حزام جنوب أوروبا كما يحب الأميركيون أن يروهم دوما، وهو افتراق يفتح الباب أمام صدامات عدة بينهما، كان أولها في السبعينيات حين اشتعل فتيل الحرب بين تركيا واليونان على عكس رغبة واشنطن، وثانيها حين غزا الأميركيون العراق ومنحوا الأكراد حماية جوية على عكس رغبة أنقرة، قبل أن تتكرر أزمة أكراد العراق عام 2003، وأخيرا أكراد سوريا الآن، بيد أن الطرفين وجدا دوما في نهاية المطاف طريقا دبلوماسيا لإعادة المياه لمجاريها لأسباب عديدة، أهمها استمرار النظر إلى روسيا كخطر وجودي لدى أنقرة، وكذلك حاجة تركيا إلى بنية التحالف الأميركي ومميزاته لمواجهة أعدائها، وهما سمتان مستمرتان حتى اليوم بالنظر للتوسعات الروسية الأخيرة في جورجيا وأوكرانيا وشبه جزيرة القرم وسوريا وهي كلها مناطق متاخمة لتركيا.
اليوم؛ تبدو الأزمة أشد تعقيدا، إذ إنها تتعلق بملف عسكري صِرف وشديد الحساسية في عصر تزداد فيه الحروب تطورا؛ وهي نقطة يدركها الأميركيون جيدا، ومن ثم كانت خطواتهم على ما يبدو لتأمين تقنياتهم العسكرية الأكثر تطورا على الإطلاق ولو على حساب الشراكة التركية المهمة في “إف 35″، أما أنقرة فيبدو أن السجال السياسي بينها وبين واشنطن بشكل عام، والذي طالما وجدت فيه مخرجا يرضي الجميع، قد خيّم على تصوراتها على الأرجح في أزمة التسليح تلك، وهي تظن حتى الآن أنها قادرة بالفعل على الخروج منها دون أن تخسر أيًّا من “إف 35” أو “إس 400″، وهو تصوّر كتبت تلك التصريحات الأميركية السابقة نهايته على الأرجح خلال الأيام القليلة الماضية.
وحتى يجد الحليفان طريقا لحل لتلك الأزمة، تظل الطائرات الأربع المملوكة فعليا لتركيا حبيسة الأراضي الأميركية، في حين يستمر طيّاروها الأتراك في التدرب على قيادتها بولاية أريزونا، بالإضافة إلى زملائهم بولاية فلوريدا حيث يتم تدريبهم على صيانتها، والجميع هناك بانتظار إشارة عبور الأطلسي والعودة إلى تركيا، دون أن يعرفوا بالضرورة هل تكون عودتهم على متن الطائرات الجديدة الأحدث في العالم والتي استُثمرت فيها مليارات الدولارات وأُعِدَّت العدة لاستضافتها على الأراضي التركية، أم على متن طائرات أقدم سيطول اعتماد تركيا عليها بينما تنفتح سماواتها للترسانة الدفاعية الروسية.
الجزيرة