بدأت مسيرات العودة كدعوة شبابية عبر مواقع التواصل الاجتماعي في قطاع غزة في شهر يناير/ كانون الثاني 2018، وجاءت الدعوة تحت شعار “مسيرة العودة الكبرى”، بدأ الناس بالتفاعل معها والتقاطها كرافعة نضالية للحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يمر بها قطاع غزة، ثم تشكلت ما عرفت بـ”اللجنة التنسيقية العليا لمسيرة العودة الكبرى” من شخصيات وطنية مستقلة ومنظمات المجتمع المدني.
تحولت الفكرة إلى دعوة والدعوة لاعتصام اللاجئين رجالا ونساء وأطفالا في أقرب نقاط للسياج الشرقي لقطاع غزة، وحدد 30 مارس/ آذار كنقطة انطلاق على طول السياج الشرقي للقطاع أو ما يعرف بخط الهدنة، وكان الحراك يستهدف تجاوز خط الهدنة وعودة اللاجئين بشكل فعلي إلى ديارهم التي هُجروا منها، بشكل سلمي وتحت راية العلم الفلسطيني.
من اللجنة التنسيقية إلى الهيئة الوطنية
في 15 مارس 2018، صدرت وثيقة عرفت بوثيقة المبادئ العامة لمسيرة العودة الكبرى، ونصت الوثيقة على أن “المسيرة حالة جماهيرية لا مركزية، تتطلع إلى مشاركة كافة القوى فيها مع مراعاة الطابع الشعبي.. وألا تتخذ صبغةً فصائليةً ولا علاقة لها بالأجندة السياسية لأي جهة ولا ترفع أي شعار سوى شعار العودة”.
بعد يومين فقط من إصدار الوثيقة، وبتاريخ 17 مارس 2018، انضمت الفصائل الفلسطينية بقطاع غزة إلى المسيرة؛ وأُعلن عن مسمى هيكل جديد هو “الهيئة الوطنية العليا لمسيرة العودة وكسر الحصار”. وأظهرت هذه التسمية التي تبنتها الفصائل وجود مطالب خاصة بقطاع غزة، لا تتشارك فيها مناطق اللجوء الأخرى، وأصبحت “مسيرات العودة وكسر الحصار”.
في 13 فبراير/ شباط 2019 حذرت الفصائل الفلسطينية، في بيان لها، من انفجار وشيك بفعل اشتداد الحصار، محملة الاحتلال المسؤولية الكاملة عن تبعات أي اعتداء ينفذه بحق المشاركين في مسيرات العودة الأسبوعية. وقالت في بيانها، إنها لن تسمح باستمرار تغول الاحتلال على المشاركين السلميين في مسيرات العودة، مؤكدة أن كل المؤشرات الراهنة تشير “إلى إنذارات تحمل الضوء الأحمر لانفجار قادم بسبب اشتداد الحصار، ولن نقبل أن يموت شعبنا جوعاً وقهراً”. وشددت الفصائل على أن “استمرار تنصل الاحتلال من التفاهمات يستوجب زيادة في الضغط من الوسطاء العرب والدوليين على الاحتلال لإلزامه بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه”.
صدر هذا البيان بعد عام إلا قليلا من مسيرات العودة، وبمراجعة مقاصده، يتبين أن مسيرات العودة باتت تشغل حيزا كبيرا في فكر وممارسة الفصائل الفلسطينية، أي أنها – الفصائل – اقتربت منها حد التبني والتوظيف، وقد كان الأصل في المسيرات أنها مسيرات شعبية سلمية، والفصائل الأصل فيها أن لها أجنحة عسكرية تتبنى المقاومة المسلحة. اقتراب الفصائل من مسيرات العودة اقتراب محمود إذا كان محدودا، لكن تحول الأمر من مسيرات شعبية سلمية إلى تبني الفصائل لكامل التفاصيل والفعاليات والحيثيات يعني أنه بات للمسيرات رأس وباتت لها هياكل وباتت لها لجنة وطنية فصائلية، والأصل أنها كانت فكرة نضال شبابية تقع ما بين الانتفاضة الشعبية والمسيرة السلمية، عمادها الشباب دون هياكل ستفضي لاحقا إلى تهدئة ومباحثات ووساطات ووفود وزيارات.
مأسسة مسيرات العودة
مسيرات العودة ليست فعلاً منفصلاً عن نضال الشعب الفلسطيني الممتد على مدار سبعة عقود، لكن الملاحظ أنه كلما اقترب هذا النضال من الأبعاد والأشكال الرسمية والهياكل واللجان كلما أعيدت صياغة أهدافه ومساراته وتبعاته ونتائجه. حدث الأمر وتكرر منذ الانتفاضة الكبرى منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، وامتد إلى الانتفاضة الشعبية الأولى في العام 1987 والتي بدأت انتفاضة شعبية عفوية بالحجارة حتى التقطتها منظمة التحرير وأصبحت للانتفاضة قيادة وطنية موحدة تُصدر البيانات وتضبط الحيثيات. وانتهت انتفاضة الحجارة بتوقيع اتفاق سلام، لم يكن أطفال الحجارة عندما خرجوا في الشوارع والمخيمات يعلمون أن توظيفا سياسيا ما قد يصل إلى هذا الإخراج وأن تضحياتهم ستنتهي باتفاق سلام معطل.
تكرر الأمر مرة أخرى في انتفاضة الأقصى العام 2000 عندما بدأت كهبّة شعبية ردا على تدنيس أرييل شارون للمسجد الأقصى، كانت هبة لو تركت لاستمرت، لكن اقتراب السلطة منها من أجل تحسين ظروف التفاوض، وتبني الفصائل لها أفضى بها إلى أن تنتهي دون أن تسجل أي إنجازات، وتواصلت عمليات التهويد حتى أصبحت القدس عاصمة لإسرائيل بقرار أميركي غير مسبوق. والآن الأمر ذاته يتكرر مع مسيرات العودة.
من الهدف الاستراتيجي إلى أهداف تكتيكية
عندما انطلقت “مسيرات العودة الكبرى” قبل أن تصبح مسيرات العودة وكسر الحصار، أعلنت اللجنة التنسيقية لمسيرة العودة الكبرى، قبل أن تتلاشى هذه الأخرى وتصبح الهيئة الوطنية العليا، أن “رؤية المسيرة تتمثل في الفعاليات الشعبية المتدحرجة والتي تهدف للتصدي للاحتلال الإسرائيلي وتكسر الهالة الأمنية التي حاول فرضها ومنعه من الاقتراب من الحدود المصطنعة بين قطاع غزة وأراضينا التاريخية المحتلة”. وأشارت إلى أن “ذلك يتزامن مع تحرك سياسي واسع إقليمي ودولي بمشاركة الأفراد والمؤسسات والهيئات الفلسطينية والداعمة لها”، مؤكدة أن “التخييم لفترة زمنية محددة على طول الحدود، لإرسال رسالة شعبنا للمجتمع الدولي وللمحاصرين للقطاع”.
وذكرت “اللجنة” حينها أنه “سيجري خلال تلك الفترة الإعداد لمسيرة مليونية من غزة والضفة الغربية المحتلة والشتات والداخل المحتل، بشكل متزامن يتفق على موعدها ويحضر لها بشكل محكم لضمان تحقيق الأهداف المرجوة”. وأشارت إلى أنها قررت أن يكون موعد التحرك الوطني هو ذكرى يوم الأرض في 30 آذار/ مارس 2018 كبداية للحراك، واعتبار ذكرى نكبة فلسطين 15 أيار/ مايو 2018 محطة أخرى للتحركات الجماهيرية.
كانت الرسالة الرئيسية لمسيرة العودة النضال لتحقيق الهدف الرئيس المتمثل بعودة اللاجئين انطلاقا من القرار الأممي 194، والتصدي لاستهداف اللاجئين عقب وقف دعم الأونروا، وإفشال كل مخططات التوطين التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية وفي القلب منها ما يعرف بصفقة القرن.
لاحقا تراجعت المطالب وتلاشت الأهداف الكبرى وبات تحسين الحالة الاجتماعية والإنسانية والاقتصادية لسكان قطاع غزة هو المحرك المركزي لمسيرات العودة وكسر الحصار. وبعدما كانت المسيرات محل إجماع وطني شعبي فلسطيني باتت محل جدل ونقاش وتساؤلات عن جدواها. وبعدما كانت تستهدف تحريك ومشاركة كافة اللاجئين أينما وجدوا اقتصرت فعالياتها على قطاع غزة فقط. وباتت مسيرات العودة محل ضغط عربي رسمي؛ وكان محلل الشؤون الأمنية في صحيفة “معاريف” الإسرائيلية، يوسي ميلمان، قد قال “إن هناك جهودا دبلوماسية عربية للضغط على قيادة حركة حماس من أجل وقف مسيرات العودة في قطاع غزة”، مشيرا إلى جهود عربية دبلوماسية تنشط وراء الكواليس، خاصة من قبل مصر والسعودية، للضغط على حماس من أجل وقف المسيرات، مقابل فتح معبر رفح في الاتجاهين. وقد حدث وبات المعبر مفتوحاً في اتجاهين بعدما كان لا يفتح في العام إلا أيام معدودات.
نضال في بيئة منقسمة
لم تكن مسيرات العودة بمنأى عن الانقسام الفلسطيني وربما قدرها أنها حالة نضالية فلسطينية تبلورت وسط حالة انقسام متمدد، وربما يؤخذ عليها أنها قدمت مواجهة الاحتلال والتصدي له وعودة اللاجئين على مطلب مهم ومركزي وهو الذهاب للوحدة الوطنية، وقد حدث أن أصبحت مسيرات العودة جزءا من تفاصيل الانقسام والتراشق الإعلامي بين فتح وحماس بدل أن تكون حالة نضالية يمكن أن تُقرب وجهات النظر وتفضي للانتقال من الانقسام إلى الوحدة، خاصة أنه طوال مسيرة النضال والثورة الفلسطينية لم يكن هناك خلاف أو اختلاف على مواجهة الاحتلال والتصدي لممارساته. هذا لم يحدث، ما حدث هو العكس تماما. ويحضرني هنا سيناريو مفاده: ماذا لو كانت مسيرات العودة في بيئة فلسطينية موحدة وداعمة؟
في مارس/ آذار 2018، وبالتزامن مع بدء مسيرات العودة، أقدمت السلطة على حدث مهم للغاية، وربما نتيجة سوء تقدير، إذ رفعت السلطة حدة إجراءاتها المالية ضد غزة، والتي بدأتها في إبريل/ نيسان 2017، ووصف الرئيس محمود عباس – في مستهل اجتماع للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير التي بالمناسبة تتكون من غالبية الفصائل الفلسطينية باستثناء حركتي حماس والجهاد الإسلامي – الإجراءات التي وصفتها حركة حماس بالعقابية، بأنها تهدف لحماية المشروع الوطني، وقال “بصفتي رئيسًا للشعب الفلسطيني، وتحملت ما تحملت في طريق المصالحة مع حماس، قررت اتخاذ الإجراءات الوطنية والمالية والقانونية من أجل المحافظة على المشروع الوطني”. يذكر أن الرئيس محمود عباس كان قد أكد في 30/3/2018 وفي جلسة للمجلس الوطني، على المقاومة السلمية، ووصف ما يدور بغزة قائلًا: “ربما هي الطرق الوحيدة في مقاومة الاحتلال، لكن لا نريد إصابات ولنحمي أطفالنا على السياج الحدودي”. لم يتطرق الرئيس عباس لكيفية حماية الأطفال على السياج!
لقد أصبحت مسيرات العودة حاضرة في الخطابات الرسمية للسلطة وللفصائل. وكان إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، قد توعد الاحتلال بالاستعداد لطوفان بشري في ذكرى النكبة. وتذهب بعض الروايات التي تتعرض لمسيرات العودة إلى القول إنه أمام الأوضاع الاقتصادية الصعبة، سعت حركة حماس إلى توجيه “الانفجار المحتمل” في غزة باتجاه الاحتلال من خلال مسيرات العودة، وهو ما حذر منه عدد من قادتها.
جدلية النضال السلمي والمقاومة المسلحة
لم يكن تبني مسيرات العودة مقتصراً على الخطاب السياسي الفلسطيني الرسمي، لكن باتت الأجنحة العسكرية للفصائل أيضا في العمق من المشهد، ففي 21 ديسمبر/ كانون الأول 2018، أعلنت غرفة العمليات المشتركة لفصائل المقاومة الفلسطينية، أنها تجري حالياً مشاورات متواصلة ودائمة للرد على استهداف الاحتلال للمتظاهرين السلميين في جمعة “الوفاء لأبطال المقاومة”، ضمن مسيرات العودة، التي أدت لاستشهاد 4 مواطنين برصاص الاحتلال. وقالت الغرفة، التي تضم الأذرع العسكرية لمختلف الفصائل الفلسطينية، في بيان مقتضب، إن “الغرفة سيكون لها موقف واضح لتحديد سياساتها وقواعد عملها تجاه عنجهية الاحتلال وجرائمه ضد أبناء الشعب الفلسطيني في مسيرات العودة”. لاحقا سيصبح رد الفصائل أو عدمه محل جدل ونقاش بين الناس؛ لقد أصبح الجدل أنه إذا ردت الأجنحة العسكرية على استهداف الاحتلال ووقوع شهداء ومصابين بأنها تبرر للحرب على غزة، وإذا كظمت غيظها وأعادت قراءة المعطيات والتبعات بأنها تغض الطرف على جرائم الاحتلال. سيصل الأمر حد اتهام من يقوم بالرد من الأجنحة العسكرية على استهداف المتظاهرين بأنه خارج عن الصف الوطني!
تعرضت مسيرات العودة لعملية تحول متعددة الأبعاد، فقد بدأت كفكرة شبابية نضالية سلمية تؤمن بالنضال السلمي وتتبناه، لكن التحاق الفصائل بها للحد الذي أصبحت فيه عناوين ومكونات مسيرة العودة هم قيادات الفصائل الفلسطينية، أفضى لحالة من الجمع بين نقيضين، الأول النضال السلمي الذي اعتمدته مسيرات العودة، والثاني المقاومة المسلحة (الحل العسكري)، وهو المنهج الذي تتبناه الفصائل الفلسطينية وأجنحتها العسكرية، حتى بات الأمر ملتبسا، بمعنى هل تتحول مسيرات العودة من النضال السلمي إلى المقاومة الشعبية المسلحة، أم تغلب الفصائل الفلسطينية وأجنحتها العسكرية النضال السلمي على حساب المقاومة المسلحة؟ لقد باتت هذه واحدة من أهم المعضلات التي تواجهها مسيرة العودة وكسر الحصار. لم تتبلور بعد فكرة التكامل بين الخيارين. وهذا تحد ما زال ماثلا أمام مسيرة العودة ومستقبلها.
الأصل وعامل القوة وضمان الاستمرارية في مسيرات العودة أنها تعتمد القوة الناعمة وتتبنى النضال السلمي ضد الاحتلال الإسرائيلي، عمادها في شبابها وفي خطابها الشعبي وفي نضالها السلمي في فكرتها وفي هدفها المركزي والاستراتيجي مقدما على أي أهداف تكتيكية لحظية وآنية.
وبالتالي يجب إبقاء المكون الشعبي الشبابي، وهو قادر على إفراز أدوات نضالية سلمية وقادر على إفراز قيادات شبابية مستقلة، وقادر على أن يجعل مسيرة العودة حاضرة في العمق العربي الرسمي الذي لم تأت قممه على ذكر المسيرة على الإطلاق، والشعبي الذي كان يخرج في العواصم دعما وتأييدا وإسنادا للشعب الفلسطيني عند أي عدوان لكنه غائب عن مسيرة العودة، وقادر على رفع كلفة الاحتلال وفضحه، بعيدا عن الطابع الرسمي والفصائلي؛ من المهم والضروري لاستمرار مسيرة العودة تعلم الدرس مما حدث في مراحل النضال والثورة الفلسطينية عندما تحولت من انتفاضة شعبية احتوتها الهياكل والقوالب الرسمية.
العربي الجديد