نشرت الصحف في 9 يونيو/ حزيران الجاري أن رئيس الوزراء الفلسطيني، محمد اشتية، قدّم، قبل بضعة أيام، اقتراحاً إلى اللجنة الرباعية الدولية، رداً على ما أورده الرئيس الأميركي، ترامب، فيما تعرف بـ”صفقة القرن”، يتضمن إنشاء دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة ومنزوعة السلاح مع تعديلات طفيفة على الحدود، حيثما يكون ذلك ضرورياً. وهذا الاقتراح إعادة صياغة لما سبق أن طرحه الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، في مناسبات عديدة، لا سيما أمام الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب في 1/2/2020، والذي عقد “لمواجهة مخاطر الخطة الأميركية (صفقة القرن) على القضية الفلسطينية”، وكرّر ذلك في خطابه أمام مجلس الأمن الدولي في 11/2/2020. ومن الواضح الآن أن الفلسطينيين يقبلون دولة منزوعة السلاح، ويقبلون “التعديلات الطفيفة” على الحدود، مع العلم أن إسرائيل ما زالت ترفض رسم حدودها، وذلك بناء على إصرار بن غوريون ليلة إعلان قيام دولته.
هل كانت إعادة صياغة مقترحات الرئيس عباس، وإرسالها إلى اللجنة الرباعية الدولية خروجاً من مأزق؟ شعر الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، بالمأزق في مفاوضات “كامب ديفيد”، فلم يكن قادراً على الانسحاب من المفاوضات، ولا قادراً على المضي فيها، وقد أدخله رئيس حكومة العدو في حينه، مناحيم بيغن، في هذه الورطة، وبدأ بعصره، ولم يشفع له الرئيس الأميركي جيمي كارتر في تلك الورطة، إذ عمل هو على ابتزازه كذلك. وكانت ورطة الرئيس السادات أنه أعلن في خطاباته التي حاول فيها تغطية عوراته أن لا تنازل عن الحقوق الفلسطينية، بينما كان بيغن مصرّاً على عدم منح الفلسطينيين أكثر من حكم ذاتي، ولم يتزحزح عن موقفه قيد أنمله، وأسقط في يد السادات، وحتى ينقذ نفسه قدّم تنازلات موجعة، وزيّن له كارتر تلك التنازلات، إلى درجة أن السادات قبل من بيغن أطروحته أن الضفة الغربية وغزة أراضٍ “متنازع عليها”، وسوف يصل إلى تفاهمات مع الفلسطينيين، ولولا براعة الطاقم القانوني المصري ويقظته (نبيل العربي وعبد الرؤوف الريدي وأسامة الباز) لحصل بيغن على موافقة خطية من السادات على ذلك.
ويلحظ أن القيادة الفلسطينية وصلت إلى المأزق ذاته، ذلك أنها، بعد أن دخلت في نفق “أوسلو”،
“حان الوقت للوصول إلى النتيجة الواضحة والبسيطة أن المفاوضات لم توقف التوسع في الاستيطان ونهب الأرض والمصادر الطبيعية”وأدركت الغبن الذي لحق بالقضية الوطنية، بدأت تهرب إلى الأمام، وذلك بإبداء تمجيدها اتفاقيات أوسلو مع إرسال إشارات إلى التنازلات، ففي وقتٍ يعدّد الرئيس عباس أن هناك “311 مخالفة للقانون الدولي اشتملتها صفقة القرن”، راح يمجّد ما توصل إليه في اتفاقيات أوسلو، ويقول “نحن عملنا سلاماً مع بعضنا بدون تدخل أحد في أوسلو.. وتوصلنا إلى اتفاق انتقالي…”. وفي كلمة له في أثناء ترؤسه الجلسة الواحدة والأربعين لمجلس الوزراء الفلسطيني في 3/2/2020، قال الرئيس عن اتفاق أوسلو “هو أهم اتفاق بيننا وبين الإسرائيليين”. ومع ذلك لم يذكر عدد المخالفات للقانون الدولي التي تضمنها الاتفاق، ولم يشرح أين السلام الذي أنجزه “أوسلو”، وكيف يبرّر هذا التوسع الشرس في الاستيطان وتمزيق الأراضي الفلسطينية والقضاء على وحدتها الجغرافية وعمليات السلب والنهب المنظم للأرض والمياه والمصادر الطبيعية. وها قد مضى على ذلك سبعة وعشرون عاماً ولم نشاهد إنجازاً واحداً للطرف الفلسطيني.
والخشية الكبرى أن يكون اشتية قد غرق في الورطة نفسها، فهو يطرح ما ردّده الرئيس عباس في خطاباته، ويلجأ إلى الرباعية الدولية، وهنا المطبّ الأكبر، إذ قد تطرح عليه هذه أن يضع اقتراحه على الطاولة، وتضع إسرائيل خطة الرئيس ترامب على الطاولة نفسها، ثم تدعو الطرفين إلى الجلوس على الطاولة، ويتفاوضان على المقترحات المطروحة. وهكذا تعود القيادة الفلسطينية إلى المفاوضات للمرة المائة بعد الألف، وتغرق في حلقة مفرغة، كما هي العادة، مع المفاوض الإسرائيلي. أهذا ما قصده اشتية من طرح مقترحاته على الرباعية الدولية؟ أهي العودة إلى المفاوضات من شباك الرباعية، بعد أن خرج المفاوض الفلسطيني من باب الاستيطان؟ وهل تمجيد الرئيس عباس اتفاقيات أوسلو تمهيد للعودة إلى المفاوضات من خلال الرباعية؟ وهل تقبل إسرائيل العودة إلى المفاوضات بدون أن يقدم الجانب الفلسطيني تنازلات جديدة “لإغراء” المفاوض الإسرائيلي بالحديث (مجرد الحديث) مع الفلسطينيين؟
كان محمد اشتية من الوفد الفلسطيني المفاوض في مدريد وواشنطن، ورافق ذلك المسار عن
“ما الحكمة من تدوير فشل محمود عباس وإعادة طرح المفاوضات من الباب الخلفي للرباعية الدولية؟”كثب، وعايش المكر الإسرائيلي واختبر النوايا الإسرائيلية، كما عايش فترة تطبيق اتفاقيات أوسلو والألغام التي زرعت فيها، وتعامل مع عهدي ياسر عرفات ومحمود عباس، وبالتالي لا تنقصه الخبرة ولا المعرفة ولا العلم بالخطط والأطماع الإسرائيلية، فما الحكمة من تدوير فشل محمود عباس وإعادة طرح المفاوضات من الباب الخلفي للرباعية الدولية؟ الحكمة الثابتة في مسار الرئيس أبو مازن هي “المفاوضات”، مع العلم أنه حان الوقت للوصول إلى النتيجة الواضحة والبسيطة أن المفاوضات لم توقف التوسع في الاستيطان ونهب الأرض والمصادر الطبيعية، وإفقار الشعب الفلسطيني حتى لا يتمكن من ممارسة حق تقرير مصيره وتطوير بناه التحتية ومؤسساته. ومع أن المفاوضات ليست عيباً، بل لا بد من “قليل من القطران” معها!
وبعد ذلك، لا بدّ من تذكير الأخ محمد اشتية بأنه في كل الحراكات الرسمية الفلسطينية يظهر جلياً أن القيادة تذهب إلى هيئة الأمم المتحدة، وإلى وزراء الخارجية العرب، وإلى القمة الأفريقية وإلى القمة الإسلامية، وغيرها من الاتصالات الدولية، ولكنها لم تذهب مرة واحدة إلى شعبها، صاحب القضية الشرعي، وظلت تهمل المجلس الوطني الفلسطيني إلى درجة أن الفلسطينيين ما عادوا يذكرونه، وها قد مضى على آخر جلسة شرعية له أكثر من ثلاثين عاماً، ولم يسمع عنه أو منه خبر، وكأنه “خرج ولم يعد”. سوف تنقذ القيادة الفلسطينية نفسها من آثام “أوسلو” لو بادرت إلى إعادة انتخاب مجلس وطني، وأحيت مكونات منظمة التحرير الفلسطينية التي سحبت من رصيدها لحساب مخلوق مصطنع اسمه “السلطة الفلسطينية”، وذلك تمهيداً لفرز قيادات فلسطينية جديدة، تحمل رؤى جديدة وأساليب جديدة وأطروحات جديدة تليق بالقضية الوطنية، وتتصدّى بآليات جديدة لعصر ترامب الإمبريالي.
أنيس القاسم
العربي الجديد