بينما تستعد إسرائيل والفلسطينيون لكشف النقاب المرتقب عن “صفقة القرن” التي سيطرحها الرئيس دونالد ترامب في وقت ما خلال الأسابيع القادمة، انتهجت الفصائل المتناحرة في رام الله وقطاع غزة استراتيجيات متناقضة لإدارة التداعيات الناتجة عن ذلك. فـ”السلطة الفلسطينية” ملتزمة أساساً برفض الخطة الأمريكية وتريد من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو استئناف مفاوضات السلام برعاية روسية. غير أن إسرائيل تجاهلت بشكل مؤدّب هذه الاقتراحات في الماضي، ومن غير المرجح أن تستبدل وساطة البيت الأبيض بوساطة الكرملين.
وفي غضون ذلك، أصدر رئيس “السلطة الفلسطينية” محمود عباس تحذيرات مبهمة بأنه قد يتّخذ إجراءات انتقامية إذا ما قررت حكومة الائتلاف اليمينية التي ستُشكّل قريباً في إسرائيل ضمّ الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية. وخلال المداولات الداخلية التي جرت في الأشهر القليلة الماضية، قدمت حركة «فتح» بزعامة عباس توصيات بتعليق “اتفاقيات أوسلو” من عام 1993، وسحب الاعتراف بدولة إسرائيل، ووقف التعاون الأمني، وحتى تفكيك “السلطة الفلسطينية”. وقد رفض عباس أيضاً تلقي الأموال الجمركية التي تجمعها إسرائيل طالما يتمّ خصم المدفوعات إلى عائلات “الشهداء” والسجناء الإرهابيين من التحويلات – وهو الموقف الذي أدى إلى تفاقم الأزمة المالية التي تمرّ بها “السلطة الفلسطينية”.
وفي غزة، تتفق حركة «حماس» مع عباس في رفضه بشكل قاطع مناقشة الخطة الأمريكية، لكن الحركة تقترب بصورة أكثر من التوصّل إلى مجموعة تفاهمات منفصلة مع إسرائيل. ، وتمت مناقشة هذه التفاهمات منذ أكثر من عام، بوساطة مسؤولين عسكريين بارزين من “جهاز المخابرات العامة المصرية”، ومبعوث الأمم المتحدة نيكولاي ملادينوف، ومنسّق المساعدات القطرية محمد العمادي، إلّا أنها قد تؤتي ثمارها في الوقت الراهن. وإذا حصل ذلك، قد تساهم في استقرار الوضع المضطرب في غزة، وفرض حالة هشة طويلة الأمد من وقف إطلاق النار، واعتماد رزمة سخية من البرامج الاقتصادية. باختصار، في حين يبدو أن “السلطة الفلسطينية” تميل نحو مواجهة مفتوحة مع إسرائيل، إلّا أن «حماس» قد تخفض قريباً وبشكل كبير من حدة التوترات مع “العدو الصهيوني”، على الأقل في الوقت الحالي.
من المصالحة إلى الاتهام
في الآونة الأخيرة، كان قادة “السلطة الفلسطينية” وحركة «حماس» يناشدون بعضهم البعض علناً وبانفعال شديد لتسريع المصالحة الفلسطينية، آملين توحيد الصفوف قبل إطلاق الخطة الأمريكية. ويقول الفصيلان إن تأسيس “حكومة وحدة” وتحديد موعد لإجراء انتخابات مبكرة لرئاسة “السلطة الفلسطينية” و”المجلس التشريعي الفلسطيني” من شأنهما أن يقنعا الدول العربية برفض ما يعتبرون أنه سيكون اقتراحاً أمريكياً أحادي الجانب.
ومع ذلك، فإنهم يتجنبون بِعند حتى الآن تقديم أي تنازلات من شأنها أن تساعد في إنهاء الانقسام بين غزة والضفة الغربية الذي دام اثني عشر عاماً. وفي هذا الصدد، استضافت مصر العديد من جولات المحادثات بين كبار ممثلي «فتح» و«حماس» خلال تلك الفترة أسفرت عن إبرام اتفاقات حول المبادئ العريضة للمصالحة، لكن أياً منها لم ينضج ليصل إلى مرحلة التنفيذ.
وتُرحّب «حماس» بعودة قادة “السلطة الفلسطينية” إلى غزة لكي يحكموا القطاع، لكنها ترفض نزع سلاح ميليشياتها أو حتى تسليم قيادة الشرطة. كما تصرّ على الإبقاء على آلاف المسؤولين الذين عيّنتهم منذ سيطرتها على القطاع في عام 2007، في حين صدرت تعليمات لموظفي “السلطة الفلسطينية” بالبقاء في منازلهم. ورداً على ذلك، رفض عباس أن يصبح “مقاولاً من الباطن” يتحمل العبء الهائل المتمثل بإدارة غزة بينما تُحوِّل «حماس» نفسها إلى «حزب الله» آخر، مع احتفاظها بجيش مستقل يملك ترسانة كبيرة من الصواريخ. وحالياً، وصلت محادثات المصالحة إلى طريق مسدود، ومن غير المرجح أن يردم طرفيها الفجوة بينهما في أي وقت قريب.
ومن المفارقات أنه حتى في الوقت الذي تدين فيه «حماس» و«فتح» اتصالات الحركة الأخرى مع إسرائيل، إلا أن كلتيهما تسعيان إلى إقامة حوار مع فريق نتنياهو. وقد حافظت “السلطة الفلسطينية” على تعاون أمني فعال مع الجيش ووكالات الاستخبارات الإسرائيلية، فضلاً عن تنسيق وثيق في المسائل الاقتصادية. ورغم عدم التقاء عباس بنتنياهو منذ سنوات، إلا أن قنوات التواصل بين الجانبين لا تزال مفتوحة ومزدحمة من خلال رئيس “جهاز الأمن العام” الإسرائيلي.
وفي غزة، تُسارِع «حماس» إلى تحويل المواجهات المستمرة على الحدود إلى نوع من الهدنة مع إسرائيل. وقد وصف عباس هذا الجهد بأنه “مؤامرة” مدعومة من الولايات المتحدة تهدف إلى إنشاء “دويلة” منفصلة، معتبراً أن مثل هذه النتيجة قد تعرقل قيام دولة فلسطينية متكاملة. كما أنه قطع قدراً كبيراً من التمويل لغزة، الذي كان يصل في السابق إلى 52 في المائة من ميزانية “السلطة الفلسطينية”. وقد تسبّب ذلك بنقص كبير في العملة، مما أدى إلى تفاقم مشاكل غزة على صعيد البطالة والكهرباء والإمدادات الغذائية، وأثار احتجاجات غير مسبوقة عمّت الشوارع ضد «حماس». وتمكّنت الحركة من تفريق هذه التظاهرات في غضون أيام، لكن الحادثة أظهرت أن قبضتها الحديدية قد تكون مهددة.
الطريق إلى التفاهمات بين إسرائيل و«حماس»
منذ أن أصبح يحيى السنوار أبرز قيادي في «حماس» قبل عامين، استنتج أن الحركة غير قادرة على تحمّل تصعيد عسكري شامل مع إسرائيل، ناهيك عن تحقيق مطالبها بحرية الإبحار وإنشاء مطار في القطاع بهذه الطريقة. وكان السنوار قد أمضى 22 عاماً في السجون الإسرائيلية، ويتحدث العبرية بطلاقة، ويتابع الإعلام الإسرائيلي عن كثب، لذا فهو يدرك أن ردّ نتنياهو على أي مواجهة كبيرة أخرى سيكون أكثر تدميراً بكثير من “عملية الجرف الصامد” في عام 2014. ومن ناحية أخرى، خسرت «حماس» معظم أنفاقها الهجومية العابرة للحدود والممتدة إلى إسرائيل وهي تكافح للحفاظ على ترسانتها الصاروخية بعد أن قطعت مصر طرق التهريب عبر شبه جزيرة سيناء.
ونظراً إلى هذه المساوئ العسكرية ورفض “السلطة الفلسطينية” تحمّل مسؤولية الأزمة الاقتصادية في غزة، قرر السنوار بناء استراتيجيته انطلاقاً من تفضيل القيادة الإسرائيلية الواضح للاحتواء على حساب الحرب. أما نتنياهو، فكونه مدعوماً من رئيس أركان “جيش الدفاع الإسرائيلي”، فقد عبّر مراراً وتكراراً عن استعداده للمساهمة في الحدّ من وطأة الأزمة الإنسانية في غزة فور عودة الهدوء.
وبالتالي، مارس السنوار ضغوطاً بدرجات متفاوتة لتحقيق شروط أفضل من إسرائيل منذ آذار/مارس 2018، محرّضاً على اشتباكات أسبوعية على الحدود أيام الإثنين والجمعة تحت شعار “مسيرة العودة”. وقد شجعت «حماس» الآلاف من المتظاهرين – ولكن نادراً كوادرها – على اقتحام الجدار الأمني الإسرائيلي، مع قيام بعض العناصر بإلقاء عبوات ناسفة على جنود إسرائيليين، وإطلاقهم البالونات الحارقة التي تسببت باندلاع حرائق كبيرة داخل إسرائيل، فضلاً عن إطلاقهم صليات الصواريخ بين الحين والآخر. وأمر نتنياهو “جيش الدفاع الإسرائيلي” بمنع أي اختراق لمراكز وقرى إسرائيلية، لكن ردّه كان مدروساً لتجنب حدوث أي تصعيد شامل.
واليوم، يؤيد الطرفان وقف إطلاق النار. وقد تعرض نتنياهو لانتقادات متزايدة بسبب تحفظّه، في حين تم شجب السنوار لإرساله مراهقين ومتظاهرين غير مسلّحين ليلقوا حتفهم أو يتعرضوا للإصابات. وبالتالي، كلاهما يرغبان في إسكات منتقديهما عن طريق إنهاء دائرة العنف.
وتهدف التفاهمات الجديدة، التي لا تزال بحاجة إلى اللمسات الأخيرة، إلى تهدئة الحدود مقابل حزمة مساعدات متعددة السنوات إلى غزة، والتي سبق للمانحين أن تعهدوا بتوفير 300 مليون دولار في إطارها. وتشمل الفوائد ما يلي:
توسيع رقعة منطقة الصيد في غزة لتصل إلى خمسة عشر ميلاً بحرياً للمرة الأولى منذ ثلاثين عاماً
السماح لحوالي ثلث السلع ذات الاستخدام المزدوج التي كانت محظورة سابقاً بالدخول إلى غزة عبر المعابر الإسرائيلية
إعادة إعمار المناطق الصناعية في معبري إيريز والمنطار (كارني) لجذب المستثمرين (الإسرائيليين بشكل رئيسي) المهتمين باليد العاملة الرخيصة في غزة
توفير وظائف لعشرين ألف مواطن عاطل عن العمل في غزة من خلال برنامج لتحديث البنية التحتية قيمته 45 مليون دولار تحت إشراف الأمم المتحدة و”البنك الدولي”
مدّ خطوط كهرباء إضافية إلى غزة، وتحويل محطة توليد الكهرباء المحلية للعمل بالغاز الطبيعي، وإنشاء محطات كهرباء تعمل بالطاقة الشمسية
بناء محطة لتنقية المياه بتمويل من المملكة العربية السعودية
توسيع مستشفى “الشفاء” الرئيسي في غزة بتمويل كويتي
الخاتمة
إذا مضت إدارة ترامب قدماً بنيتها المعلنة المتمثلة في تقديم أطر السلام هذا الصيف، فقد يتغير المشهد السياسي الفلسطيني إلى حد كبير. وسترفض «حماس» اقتراح ترامب، وتحمي نفسها وراء تفاهمات وقف إطلاق النار الإسرائيلية والمساعدات الاقتصادية الدولية، وتعزّز مكانتها على الأرجح في غزة. كما لا بدّ لـ”السلطة الفلسطينية” من رفضها أيضاً، لكن من موقع ضعف وعزلة وعلاقات متوترة مع إسرائيل. وهذا التناقض قد يمنح «حماس» المجال لتسريع تغلغلها في الضفة الغربية. ومن جانبها، من المرجح أن تسمح إسرائيل لواشنطن باستيعاب الردود السلبية الفلسطينية قبل إصدار ردّها الخاص.
معهد واشنطن