لفهم الاستراتيجي الإسرائيلي للحفاظ على الاستقرار والهدوء الأمني في مناطق يهودا والسامرة (الضفة الغربية) يعتمد منذ أكثر من عقد على تحسين دائم للوضع الاقتصادي ونسيج حياة السكان الفلسطينيين، إلى جانب التعاون الأمني الوثيق مع السلطة الفلسطينية. لقد رأى الكثيرون في إسرائيل في هذا النهج وسيلة لوجود «سلام اقتصادي»، أي ضمان استقرار أمني حتى بلا مفاوضات أو تسوية سياسية، وفي ظل التمييز بين الحكومة الفلسطينية وأغلبية الجمهور في المنطقة. إلى جانب ذلك، على مدى نحو عقد تحذر محافل مختلفة في إسرائيل من تغيير استراتيجي سلبي من المتوقع أن يحدث في الساحة الفلسطينية بشكل عام وفي الضفة الغربية بشكل خاص. في بؤرة الأخطار سيناريوهات كابوس لانتفاضة ثالثة، وموجات إرهاب وتفكك السلطة الفلسطينية. والحجة المركزية التي يقوم على أساسها هذا الإخطار أن الجمود السياسي بعيد السنين والابتعاد المتواصل للفلسطينيين عن هدف الدولة المستقلة من شأنهما ان تشجعا على التنازل عن مشروع الحكم الذاتي، وأخطر من ذلك ـ العودة إلى طريق الكفاح العنيف.
عملياً، رغم التحديات والصدمات الكثيرة، لم يتحقق هذا التغيير الاستراتيجي. فسواء في الحكم أم في الجمهور الفلسطيني في الضفة الغربية حافظوا على ضبط النفس وامتنعوا عن التصعيد حتى بعد مفترقات كان يفترض بها ظاهراً أن توجههم إليها، وعلى رأسها ثلاث معارك عسكرية شديدة في قطاع غزة، وأزمة متواصلة في العلاقات مع إسرائيل، والعملية القاسية في قرية دوما (تموز 2015)، وموجة الإرهاب التي نشأت منذ تشرين الأول 2015 («انتفاضة الأفراد»)، ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس (أيار 2018)، وكذا إضرابات السجناء وأيام الذكريات الوطنية في الغالب.
إن الهدوء النسبي في الضفة الغربية ليس دليلاً على تبدد الهوية والتطلعات الوطنية للفلسطينيين، بل يشكل مقدمة لصياغة متجددة للأهداف الجماعية وملاءمتها مع التغييرات في البعد الجغرافي الاستراتيجي، مع التحولات التي طرأت على صورة المجتمع الفلسطيني. فالهدوء النسبي ينبع من خمسة أساسات متداخلة:
1 ـ ذاكرة جماعية صادمة لأغلبية الجمهور الفلسطيني من سنوات الصدام مع إسرائيل (منذ العام 2000). والارتداع عن إمكانية استئنافه.
2 ـ معرفة الضائقة العميقة السائدة في معظم العالم العربي (بما في ذلك في قطاع غزة) التي على أساسها نشأ فهم جماعي في أوساط الفلسطينيين في الضفة الغربية، وبموجبه لا يزال وضعهم جيداً بشكل نسبي رغم المصاعب الكثيرة التي يقفون أمامها، وأساساً في ضوء السيطرة الإسرائيلية.
3 ـ نسيج حياة مستقر نسبياً ـ ولا سيما بفضل سياسة إسرائيل على المستوى المدني، الذي يؤكد ثمن الخسارة الكامن في التوجه إلى المواجهة.
4 ـ صعود جيل شاب يعزو أهمية كبيرة للتحقق الذاتي وللتقدم في الحياة المهنية الشخصية، ويظهر اغتراباً تجاه السلوك الوطني والتعب من الشعارات الأيديولوجية التي حركت الساحة الفلسطينية في الماضي. وثمة تعبير ملموس عن هذا الميل هو الانخفاض على مدى السنين في حجم المشاركة في الأحداث التي تجرى إحياء لأيام الذكرى الوطنية وذلك بخلاف المشاركة الواسعة في الاحتجاجات التي مركزها اقتصادي، مثل المظاهرات الجماهيرية ضد قانون الضمان الاجتماعي في السلطة الفلسطينية.
5 ـ سعي كبار رجالات السلطة الفلسطينية إلى منع التدهور في الميدان انطلاقاً من الرغبة في الحفاظ على مكانتهم السياسية والخوف من إعادة سابقة سيطرة حماس على قطاع غزة (2007) في الضفة الغربية أيضاً. في هذا السياق يبرز تمسك الفلسطينيين في الحفاظ على التنسيق الأمني، الذي يشكل بالنسبة للطرفين أساساً مركزياً لاستمرار الاستقرار في المنطقة.
ولكن صيغة الاستقرار في الضفة الغربية تواجه في الأشهر الأخيرة تحدياً شديد القوة في شكل أزمة اقتصادية آخذة في الاحتدام. والسبب المركزي لنشوئها هو قرار السلطة الفلسطينية وقف تلقي أموال المقاصة التي تشكل نصف ميزانيتها ـ 9 مليار شيكل من أصل نحو 8 مليار في العام 2018، وذلك احتجاجاً على قرار إسرائيل الاقتطاع من أموال المقاصة المبلغ الذي يمنحه الفلسطينيون لعائلات السجناء. فالانخفاض المالي الكاسح في الميزانية دفع السلطة الفلسطينية إلى الإعلان قبل شهرين عن سياسة طوارئ اقتصادية في أساسها تقليص 40 ـ 50 في المئة من رواتب نحو 160 ألف موظف (منهم 65 ألف من أعضاء أجهزة الأمن). إضافة إلى ذلك، توجهت السلطة الفلسطينية بطلب المساعدة من العالم العربي، الذي وعد بمنح 100 مليون دولار في السنة (حالياً دون التنفيذ العملي). وينبغي التشديد على أن إسرائيل في الماضي توقفت عدة مرات عن تحويل أموال المقاصة، ولا سيما في أثناء انتفاضة الأقصى، الخطوة التي أثرت دراماتيكياً على الواقع الاقتصادي في المناطق.
تزامنها وارتباطها بصفقة القرن يرشح المنطقة للانفجار
في الحالات الأخرى، تراجعت إسرائيل عن مثل هذه الإجراءات عقب فهم إمكانيات التدهور، في بداية 2015 مثلاً، بعد أن انضمت السلطة الفلسطينية إلى سلسلة من المنظمات الدولية.
لقد وفر التقرير الأخير للبنك الدولي، الذي استعرض الوضع الاقتصادي ـ المالي في السلطة الفلسطينية قبيل انعقاد «الدول المانحة»، مفاهيم عميقة حول الأزمة الاقتصادية. فقد تقرر في التقرير أن النمو في السلطة الفلسطينية في 2018 تميز بانكماش متواصل وبلغ 0.9 في المئة في الضفة الغربية (نحو سلبي على خلفية النمو الطبيعي في عدد السكان، بنحو 3 في المئة). إضافة إلى ذلك، عكس التقرير التقلص المتواصل في المساعدات الغربية للفلسطينيين (الذي يسجل منذ نحو عقد)، ويأتي بخلاف التوسع في المساعدات التي تعطى من الدول العربية (التي لا تزال أدني كثيراً من المساعدات الغربية). إن المساعدة العامة للسلطة الفلسطينية التي بلغت في 2010 نحو 4.5 مليار شيكل تقلصت في 2018 إلى نحو 2 مليار شيكل. وينبغي أن يضاف إلى ذلك الانخفاض في ميزانية الوكالة، التي يعتمد عليها قطاع اللاجئين في المناطق وفي الشتات، وكذا التقليص في المساعدات الأمريكية للفلسطينيين في أعقاب الشرخ الحاد بين واشنطن ورام الله في السنة الأخيرة.
تبرر الأزمة الاقتصادية الناشئة في الوقت الحالي طرح إخطار من مغبة تغيير استراتيجي محتمل في الساحة الفلسطينية. فتواصل الأزمة على مدى الزمن، فما بالك تفاقمها، سيؤدي إلى نشوء عدة تهديدات من ناحية إسرائيل: اتساع دائرة الفلسطينيين المشاركين في خطوات عنيفة، ولا سيما أعمال الإخلال بالنظام والعمليات، وذلك في ضوء الإحباط المتزايد وتغيير اعتبارات الربح والخسارة الحالية السائدة في الجمهور الفلسطيني، ومصاعب أداء المهام في السلطة الفلسطينية على المستوى المدني، مما سيخلق فراغات يتعين على إسرائيل أن تمليها في مجال البنى التحتية المدنية مثلاً (السيناريو الذي من شأنه أن يعمق تعلق الجمهور الفلسطيني بإسرائيل ويجعل الحكم الفلسطيني زائداً)؛ و«رفع رأس» حماس في ضوء قيود السلطة الفلسطينية؛ والمس بالتنسيق الأمني، ضمن أمور أخرى في أعقاب تفسيرات ذاتية للمحافل الميدانية من أوساط الأجهزة ـ التي تتضرر هي نفسها من الأزمة الاقتصادية ـ لتهديدات كبار رجالات فتح والسلطة لوقف العلاقات مع إسرائيل (تطور في هذا الاتجاه من شأنه أن يجد تعبيراً له في تقييد التعاون مع محافل الأمن الإسرائيلية، وفي الحالات المتطرفة ـ في المبادرة إلى الإرهاب). فضلاً عن ذلك، فإن الأزمة في الضفة الغربية ستترجم إلى تقليص أكثر حدة للدعم الاقتصادي من السلطة لقطاع غزة. هذه الخطوة ستتسبب بمزيد من التردي للوضع المدني في قطاع غزة (المتهالك أصلاً)، ولاحقاً إلى ضعضعة الواقع الأمني في المنطقة.
للأزمة الاقتصادية الحالية صلة بـ «صفقة القرن» المتوقع أن تعرض قريباً، والارتباط بين الاثنتين في الفترة الزمنية ذاتها من شأنه أن يكون مرشحاً للانفجار. ففي الرؤية الفلسطينية، فإن الضغط الاقتصادي ومبادرة ترامب ينبعان من «مؤامرة إسرائيلية ـ أمريكية» منسقة غايتها فرض تسوية تخدم مصالح إسرائيل والولايات المتحدة، ولا تنسجم مع مصالح الفلسطينيين.
وفي الوقت الحالي، فإن موقف معظم الجمهور الفلسطيني من صفقة القرن يتراوح بين عدم الاهتمام والعداء، وفي كل الأحوال ثمة اليوم في مركز جدول الأعمال الجماهيري وضع اقتصادي لا مسألة سياسية. ولكن عرض الخطة في الوقت الذي تعيش فيه الساحة الفلسطينية كلها أزمة اقتصادية من شأنه أن يفاقم التوتر العام ويرص الجمهور والقيادة حول الإحساس بتهديد مشترك، بل إن السلطة الفلسطينية من شأنها أن تشجع الاضطراب الجماهيري مع نشر المبادرة، وذلك من أجل تجسيد التحديات التي تقف أمامها من الداخل.
إن القيادة الفلسطينية لا تزال تظهر نفوراً مبدئياً من العنف ومن فكرة «حل السلطة».
يبدو أنها تحاول إدارة أزمة حادة متحكم بها، غايتها وقف العقوبات التي فرضتها إسرائيل والولايات المتحدة على الفلسطينيين، وبالتوازي إحباط «صفقة القرن». ولكن الآلية المتشكلة، التي ضمت في مركزها الاضطراب الجماهيري الذي قد يتعاظم في ضوء استمرار الأزمة الاقتصادية، من شأنها أن تكون أقوى من قدرة التخطيط والتحكم للسلطة الفلسطينية وتوجيه المعركة كلها نحو مواجهة يمكن التحكم بها. في هذه اللحظة لا يوجد تعبير ذو مغزى للاضطراب في الشارع، ويبدو أن الجمهور الفلسطيني لا يزال في صدمة أو مرحلة هضم الوضع الجديد. ولكن الإحباط والغضب المتراكمين من شأنهما أن يتفجرا دون «مؤشرات دالة». ويمكن للانفجارات أن تتجسد في جملة من التعابير التي تتحقق في وقت واحد أو بالتدريج: احتكاك شعبي واسع النطاق مع إسرائيل؛ وتصاعد الإرهاب ـ «العفوي» أو «المؤطر»؛ واحتجاج جماهيري ضد السلطة الفلسطينية. يزعم الخطاب الجماهيري الفلسطيني أن الضفة الغربية تختلف عن قطاع غزة: بينما يظهر الغزيون «قدرة امتصاص» متواصلة ومعتادون على الأزمة الوجودية عديدة السنين، فإن التغيير السلبي في الضفة الغربية، كما ينشأ اليوم، لا يطاق، ومن المتوقع أن يؤدي إلى انفجار واسع وسريع.
لم تصل إسرائيل والسلطة الفلسطينية إلى نقطة اللاعودة، فحل وسط في مسألة الأموال المخصصة لعائلات المخربين كفيل بأن يكون المفتاح للأزمة الحالية، بشكل يسمح بإعادة ضخ أموال المقاصة إلى الصندوق الفلسطيني. حكومة إسرائيل مطالبة بأن تعترف بأنها تقف أمام بديلين: سيئ وأسوأ، وعليها أن تتخذ تجاه السلطة الفلسطينية ذات المرونة والبراغماتية التي تظهرها في هذه الأيام بالنسبة للتسوية في قاع غزة (مثلما في قطاع غزة، في حالة الضفة الغربية أيضاً، يدور الحديث عن تنازل مقابل استقرار استراتيجي ومنع تصعيد ذي آثار خطيرة من ناحية أمنية وسياسية.
للبعد الزمني وزن حاسم في هذا السياق. فكلما كان العثور على حل أسرع، هكذا يقل احتمال التصعيد، وكلما تلبثت التسوية احتدم التهديد بمواجهة لا يمكن التحكم بها.
القدس العربي