طريفٌ ذلك التصريح الذي تفوّه به قبل أسبوع رئيس «الجمهورية الإسلامية الإيرانية»، حسن روحاني، ومنّن فيه على حكّام المملكة السعودية والإمارات المتحدة باستمرار «وجودهم»، وهو كناية عن استمرار استئثارهم بثروات بلدانهم وهدر قسم منها على بذخهم غير المحتشم، وقسم آخر على دفع شتى أصناف مال الخوّة والابتزاز للولايات المتحدة. والحال أن رئيس هذه الأخيرة، دونالد ترامب، لا يفوّت فرصةً ليمنّن هو أيضاً على الحكّام الخليجيين باستمرار وجودهم، كما فعل مرة أخرى مؤخراً في أحد خطبه الانتخابية وبأسلوب مهين للحكّام السعوديين اعتادوا على مواجهته بابتسامة العبد المطيع عندا يحقّره سيّده. ومما يزيد الأمر طرافة، لو تابعنا التأمّل فيه، أن الزعيم العراقي الراحل الذي ادّعى روحاني أنّه أنقذ السعوديين والإماراتيين من أطماعه، قصدنا بالطبع صدّام حسين التكريتي، كان هو أيضاً يمنّن هؤلاء أنفسهم بوجودهم، مؤكّداً لهم أن لولا حربه على إيران لأسقطتهم هذه الأخيرة من عروشهم.
هكذا تمنّن ثلاثة أطراف على الحكّام الخليجيين بوجودهم، وهو وجودٌ مرتهنٌ أصلاً بالحماية الأجنبية، وُلد مَديناً لطرف رابع هو الإمبراطورية البريطانية التي كانت تتحكّم بمنطقة الخليج ومصائر الدول والدويلات فيها. وبعد وضع الدَين البريطاني الأصلي جانباً، إذ لا جدال في أمره، يصبح السؤال: أي تمنينٍ أكثر مصداقية، يا ترى، أتمنين إيران الخمينية أم تمنين العراق البعثي أم تمنين أمريكا الإمبريالية؟ والحقيقة أن تمنين ترامب على الرياض وحليفاتها أكثر مصداقية بكثير من تمنين التكريتي وروحاني عليها، ذلك أن واشنطن استخدمت في الواقع كلّا من دولتي العراق وإيران في محاربة الدولة الأخرى، إذ أن كلاً منهما شكّل بدوره تهديداً لأمن السعودية وحليفاتها.
فقد شجّعت واشنطن النظام البعثي العراقي في حربه على إيران، ثمّ مدّت يد العون لطهران عندما كانت هذه الأخيرة في وضع عسكري حرج، ففعلت ذلك عن طريق وكيلتها الإقليمية، دولة إسرائيل الصهيونية، التي كشفت فضيحة «إيران ـ كونترا» في منتصف ثمانينيات القرن المنصرم دورها في تزويد إيران الخمينية بالسلاح. واستمرّت واشنطن في السعي وراء إطالة أمد الحرب بين العراق وإيران بأساليب مستورة، توخّياً لاستمرار النظامين البعثي والخميني بتحطيم بعضهما بعضاً، إذ رأت في كليهما خطراً على محمياتها الخليجية.
أما دافع النظام الخميني الإيراني الأكبر فهو المطامع القومية التوسّعية التي ورثها من نظام الشاه بعد أن أسقطه وحلّ محلّه، وقد غلّفها بلباس إسلامي مضاد لأمريكا تارة، وبلباس طائفي شيعي تارة أخرى، بينما كانت المملكة السعودية تسعّر ضدّه طائفية سنّية
ولمّا بدأت واشنطن تنشر قواتها في المنطقة في عام 1990، على أراضي المملكة السعودية وفي مياه الخليج، تمهيداً لانقضاضها على العراق البعثي إثر اجتياحه للكويت، استفادت من «الحياد الإيجابي» الذي أبدته إيران حيال ذلك، وهو ما ألمح إليه الرئيس الإيراني. فقد سهّلت طهران الانتشار الأمريكي بدل أن تعرقله بالاعتراض عليه كما كان بوسعها أن تفعل، بل من واجبها لو كانت معاداة «الشيطان الأكبر»، أي أمريكا بقاموس الخمينية، هي حقاً دافعها الرئيسي. والحال أن دافع إيران الرئيسي لم يكن ذلك، بل كان إسقاط النظام البعثي في العراق كي يتسنّى لها مدّ سيطرتها على البلاد باستغلال العامل الطائفي على حساب الهوية القومية العربية التي حاول صدّام حسين التسلّح بها، وفشل بسبب الاضطهاد الشنيع الذي كان نظامه يمارسه على شعب العراق.
أما دافع النظام الخميني الإيراني الأكبر فهو المطامع القومية التوسّعية التي ورثها من نظام الشاه بعد أن أسقطه وحلّ محلّه، وقد غلّفها بلباس إسلامي مضاد لأمريكا تارة، وبلباس طائفي شيعي تارة أخرى، بينما كانت المملكة السعودية تسعّر ضدّه طائفية سنّية، والطائفتان بغيضتان على حدّ سواء شأنهما في ذلك شأن كافة أصناف الطائفية. وقد انجلت حقيقة دوافع إيران عند الاجتياح الأمريكي الثاني للعراق في عام 2003، بما لا يسع أن ينكره سوى من يعميه ولاء مطلق لطهران. آنذاك، لم تكتف إيران بممارسة «الحياد الإيجابي»، بل تواطأت بصورة سافرة مع الاحتلال من خلال مساهمة أعوانها العراقيين في «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق» و«حزب الدعوة» في التمهيد له، ودخولهم العراق في ركاب المصفّحات الأمريكية، ومشاركتهم في المجالس والحكومات المتتالية التي أنشأها الاحتلال.
فإن تمنين روحاني على حكّام المملكة السعودية والإمارات المتحدة بوجودهم إنما يؤكد أن غاية النظام الخميني المركزية هي مدّ نفوذه في المنطقة بشتى الوسائل، وهو يكيّف سياساته وفقاً لاحتياجات تلك الغاية، فيواجه «الشيطان الأكبر» الأمريكي تارة ويتواطأ معه تارة أخرى، ويعادي «الشيطان الأصغر» الصهيوني باسم «الممانعة» كلّما اصطدمت مطامعه التوسّعية بمطامع هذا الأخير التوسّعية هي أيضاً، بينما لا يردعه الأمر عن تلقّي السلاح منه عندما تلتقي مصالحهما إزاء عدو مشترك مثلما جرى إزاء العراق البعثي.
القدس العربي