تشكل الانتفاضة الشعبية السودانية مرآة للربيع العربي، بمعنى أنها تسمح لنا بأن نعيد قراءة ثمانية أعوام من الآمال المكسورة والاستباحة، بعيون جديدة.
ففي السودان اجتمعت جميع العناصر التي رأيناها بشكل متتابع في مراحل الثورات العربية المختلفة، لكن ما سمح للسودان بأن يشكّل مرآة ناصعة للربيع العربي هو تضافر عاملين:
العامل الأول هو شجاعة السودانيات والسودانيين، التي نجحت منذ اللحظات الأولى للانتفاضة في كسر جدار الخوف من جهة، وشلّ قدرة العسكريتاريا الحاكمة على استخدام العنف الوحشي الذي رأينا نماذجه المروعة في سورية وليبيا ومصر، من جهة ثانية.
العامل الثاني هو نجاح تجمع المهنيين، ومعه قوى «الحرية والتغيير»، في التصرف كقيادة سياسية جماهيرية، تصوغ شعارات الحراك وتحدد أهدافه، وهذا ناتج عن واقع أن الأحزاب السياسية وقيادات المجتمع لم تُصب بالعطب. وهنا لا بد من الإشارة إلى الدور المتميز الذي يلعبه الحزب الشيوعي السوداني، حزب عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ، في قيادة الحراك.
لقد اجتمعتْ في السودان كل العناصر التي شاهدناها في فصول الربيع المتتابعة، لكنها اتخذت هنا دلالات مختلفة على مستويات:
المستوى الأول هو ضعف شرعية البشير، فهذا الجنرال المستبد وصل إلى لحظة الحقيقة وهو مُستنفد بشكل كامل، من مذابح دارفور إلى انفصال الجنوب. جنرال مطلوب للعدالة الدولية، حاول في أواخر أيام حكمه أن يلعب دور الوسيط أو المبعوث الخليجي إلى شبيهه السوري بشّار الأسد، من دون جدوى.
المستوى الثاني هو التحالف الوثيق بين العسكر والتيارات الأصولية، صحيح أن البشير أبعد الأب الروحي للإسلاميين، حسن الترابي، عن السلطة، لكن النظام حافظ على طابعه الإسلامي، معتقدا أن هذا الطابع الذي يتجسّد في تطبيق الشريعة سوف يشكّل له شرعية اللحظة الأخيرة.
المستوى الثالث هو التحالف مع المحور السعودي، الذي دفع نظام البشير إلى إرسال خمسة عشر ألف جندي للمشاركة في الحرب على اليمن.
نظام البشير اختصر في تكوينه ثلاثة عناصر أساسية، لعبت دورا كبيرا في انتكاسة الربيع العربي، لكن اجتماعها هنا صار بمثابة فضيحة كاملة للنظام العربي.
بدل أن يتحالف العسكر مع الإسلاميين من أجل سحق شباب الثورة في ميدان التحرير، ثم ينقلب عليهم بشكل دموي، ويكون انقلابه إعلانا بعودة النظام القديم على الطريقة المصرية، حصل العكس هنا. فالعسكر والإسلاميون في حلف ثابت وقديم، لذا وضعت الثورة الطرفين في مأزق واحد. صحيح أن العسكريتاريا الحاكمة وجدت نفسها مضطرة للانقلاب على البشير ثم انقلبت على نفسها، لكنها ليست في وارد الترويج للادعاء القائل بأنها تقوم بإنقاذ الدولة والمجتمع من الإرهاب الأصولي.
وخلافا للمسار السوري الذي بدأ بسحق المتظاهرين العزل وقتل الناشطين السلميين، ثم قام بإطلاق الأصوليين من سجونهم من أجل الإيحاء بأن معركته هي مع الإسلاميين التكفيريين، فإن قدرة النظام الاستبدادي السوداني على المناورة في هذا الملعب كانت معدومة.
النظام السوري تموضع إقليميا مع المحور الإيراني، موحيا بأن معركته هي ضد الإمبريالية، قبل أن يرتمي في أحضان روسيا البوتينية، التي ليست سوى قوة إمبريالية تحاول استعادة نفوذها في المنطقة، ويضطر إلى المساومة مع اسرائيل بتلك الطريقة المشينة التي اتخذها الاستعراض الروسي في الكرملين لتسليم نتنياهو بقايا الجندي الإسرائيلي زخاريا باومل الذي قُتل في حرب لبنان 1982، مقابل لا شيء.
وفي النهاية، قام نظام الأسد بفتح حدوده، ما سمح بدخول النظام النفطي العربي إلى المشهد بقوة، من خلال المنظمات التكفيرية وأشباهها. وهنا وقع السوريون بين فكي استبدادين يتنازعان بوحشية، ويتنافسان في قمع ثورة الشعب السوري وتطلعه إلى الحرية والكرامة.
أما في السودان، فإن لعبة المحورين الإقليميين المتواجهين لم ترد على الإطلاق. فالعسكريتاريا المتأسلمة هي حليفة المحور السعودي-الإماراتي، ولم يجد الأسياد الخليجيون مانعا في استبدال ديكتاتور بديكتاتور. لذا، يجد الشعب السوداني نفسه من دون «حليف» عربي. غياب هذا «الحليف»، الذي هو أسوأ من عدو، نعمة لا يقدّرها إلا من خبر سكاكين «الحلفاء»، واستبدادهم.
اليوم يندفع ملوك النفط لدعم الانقلابيين السودانيين بالمال والنصائح المسمومة، ويجد الشعب السوداني أن قوته تنبع من وحدته وتماسكه والتفافه حول قوى «الحرية والتغيير».
مرجع الثورة الشعبية هو الناس، ولا يوجد أي مرجع آخر. والخطر الكبير على الثورة يكمن في حدوث شرخ بين مكوّنات «الحرية والتغيير»، وعلى قوى الثورة أن تعي أن وحدتها وتماسكها هي الضامن الوحيد لانتصارها.
التراجع عن مطلب الحكم المدني انتحار على الطريقة المصرية، والاستسلام لضغوط ممالك النفط ومشيخاته كارثة، لذا ليس أمام الثورة سوى أن تستمر وهي تعرف أن إيقاف الثورة في منتصفها هو الهزيمة الشاملة.
السودان اليوم هو مرآة الربيع العربي، وهي مرآة ناصعة تكشف الحقيقة التي غطاها التحالف التناحري بين المستبدين في العالم العربي.
قوى «صفقة القرن» المخزية تهجم على السودان اليوم، خوفا من ولادة نموذج ديمقراطي من رحم الربيع العربي المغطّى بدماء المقهورين. هنا تصير رمزية المعركة التي يخوضها السودانيات والسودانيون ملخّصا لحلم العرب المُجهض بالحرية والكرامة والمواطنة.
شكرا للسودان الذي أعاد للغة العرب معانيها، وحررها من ابتذال وحوش الاستبداد وجلاوزة الطغم العسكرية المافيوية، وملوك الساعة النفطية المنقلبة.
لقد أثبت الربيع العربي في مرحلتيه السودانية والجزائرية أنه لم يمت، وأن ما نشهده اليوم من عربدة المستبدين ليس سوى استفاقة الموت لنظام الببغاوات الذي يستعد لارتكاب الخيانة الكبرى في فلسطين.
المعركة طويلة وصعبة، لكنها ليست معركة السودانيين وحدهم، إنها رمز لمعركة الحرية في العالم العربي.
القدس العربي