لليوم الثامن على التوالي تواصل روسيا والنظام السوري شن غارات وحشية ضد مناطق واسعة في المحيط الجنوبي لمحافظة إدلب، استهدفت مدناً وبلدات عديدة كثيفة السكان مثل خان شیخون ومعرة النعمان وسراقب، إلى جانب مناطق أخرى في سهل الغاب شمال غرب محافظة حماة. ويستخدم الطيران الحربي الروسي قذائف عالية التدمير وخارقة للتحصينات، كما تعمد الحوامات التابعة للنظام السوري إلى إلقاء البراميل المتفجرة والألغام البحرية، مما تسبب في استشهاد عشرات المدنيين بينهم نساء وأطفال، كما أخرج القصف من الخدمة عدداً من النقاط الطبية.
وإذا كان هذا السلوك غير مستغرب من النظام السوري الذي عاث تخريباً في طول البلاد وعرضها ولم يراع حرمة نفس بشرية أو مشفى أو مخبز أو دار عبادة، فإن انخراط موسكو في حملة القصف بهذه الشراسة يثير عدداً من الأسئلة رغم أنه لا يخالف كثيراً السلوك الإجمالي للقوات الروسية في سوريا منذ تدخلها المباشر والواسع في أيلول/ سبتمبر 2015. فمن حيث المبدأ تبدو المشاركة الروسية وكأنها تدق مسماراً إضافياً في نعش اتفاقيات أستانة وسوتشي، التي احتضنتها موسكو وأبرمتها مع أنقرة وطهران بصدد منطقة خفض التصعيد في إدلب تحديداً.
صحيح أن عمليات القصف الراهنة تخدم موسكو على أكثر من صعيد تكتيكي، كأنْ تتيح لما يسمى «قوات النمر»، التي ترعاها موسكو وتزرعها في قلب ما تبقى من قوام عسكري للنظام السوري، أن تقضم مساحة إضافية في ريف حماة ومحيط إدلب، أو أن تقضي على مزيد من مقاتلي القوقاز الجهاديين وعناصر الحزب الإسلامي التركستاني، أو أن تمارس المزيد من الضغوط على أنقرة بهدف دفعها إلى تقديم تنازلات جديدة في المفاوضات المفتوحة حول الشمال السوري عموماً. ولكن من الصحيح في المقابل أن موسكو تجازف بخسران ما كسبته من زخم دولي في أعقاب قمة اسطنبول الرباعية التي جمعت تركيا وروسيا وألمانيا وفرنسا، والتي بدا أنها خطوة أولى على طريق مباركة الاستثمار الروسي لمشاريع الإعمار المستقبلية في سوريا، ولكنها أيضاً قمة شددت على «وقف إطلاق نار طويل الأمد» في إدلب.
وصحيح أيضاً أن تفاهمات أستانة وسوتشي أوكلت إلى أنقرة مهمة نزع الأسلحة الثقيلة من أيدي الجهاديين في مناطق واسعة جنوب محافظة إدلب، وكذلك ضبط حركة فصائل «تحرير الشام» عبر تسيير دوريات تركية، وتمكين التحالف المدعوم من تركيا المعروف باسم «الجبهة الوطنية للتحرير» والذي يشمل معظم فصائل المعارضة غير الجهادية. ولكن التقاعس التركي عن الوفاء بهذه الالتزامات لا يبرر نقض موسكو لسلسلة التوافقات التي توصلت إليها مع أنقرة، سواء بخصوص الملف السوري من جانب أول، أو لجهة حرص الكرملين على تغذية التناقضات بين تركيا والولايات المتحدة وتعميقها من جانب ثان.
وهكذا فإن المنطق السياسي والعسكري السليم يشير إلى أن عملية إدلب الكبرى لن تُفتح على وسعها في هذه الجولة، فالمحافظة التي يقطنها ثلاثة ملايين نسمة نصفهم من غير سكانها، وتمّ ترحيل آلاف الجهاديين إليها، ليست آخر حصون معارضة النظام السوري فقط، بل إن النيران التي يمكن أن تضرم فيها سوف تعبر الحدود بالضرورة، وتنسف التوافقات، وتشعل برميل البارود الموقوت.
القدس العربي