إفادة أندرو إكسوم، النائب المساعد الأسبق في وزارة الدفاع الأمريكية لشؤون الشرق الأوسط خلال رئاسة باراك أوباما الثانية (بين أيار/ مايو 2015 وكانون الثاني/ يناير 2017)، لم تكن شفهية على جري العادة، بل مكتوبة؛ ولم تكن قصيرة، بالمقارنة مع مثيلاتها بصفة عامة، بل استغرقت أكثر من 2600 كلمة؛ ولم يكن مضمونها عادياً ومألوفاً، بل استثنائياً وحساساً، لأنها تتناول مفاوضات أوباما مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول إنقاذ نظام بشار الأسد من سقوط وشيك، صيف 2015. وعلى نحو أو آخر شاءت هذه الإفادة، أمام لجنة فرعية في الكونغرس تبحث السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط، أن تذهب أبعد في النصّ والروحية، بحيث بدت أقرب إلى الشهادة على حقبة محورية في العلاقات الأمريكية ــ الروسية.
هنا فقرة أولى، استهلالية الطابع، من إفادة إكسوم: «طوال أكثر من نصف قرن، بقيت مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط متماثلة ومنسجمة على نحو بيّن، بصرف النظر عمّن يحدث أن يسكن البيت الأبيض في أيّ فترة زمنية. أمن دولة إسرائيل والحفاظ على الوصول إلى سوق الموارد الهيدروكربونية في شبه الجزيرة العربية وحولها كانا بمثابة أولويتين خلال الفترة التي أعقبت الحربين العالميتين. بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر، أضفنا أولوية الحدّ من انتشار الإرهاب ومحاربته. ذلك ما يحرّكنا اليوم، وذاك هو السبب في أننا نواصل صرف الزمن والموارد في المنطقة، وكان لدينا قرابة 59.000 جندي، حين غادرت البنتاغون».
لا جديد في هذا الإقرار، غنيّ عن القول، إلا في أذهان نفر من الحمقى ظنوا أنّ أولويات الولايات المتحدة قد تغيرت، أو يمكن أن تسير في اتجاهات مختلفة، على ضوء تبدلات نوعية مثل قيام تحالف «عاصفة الصحراء» سنة 1990، أو غزو العراق سنة 2003، أو انطلاق ما سُمّي بـ«الربيع العربي» وسقوط طغاة من دون إسقاط أنظمة الاستبداد ذاتها جوهرياً؛ وما إلى هذا وسواه. بعض شرائح الحمقى أولئك كانوا في صفوف الكتّاب أو المعلّقين أو الأكاديميين أو الأخصائيين، الذين هاموا عشقاً بمفهوم «النظام الدولي الجديد» الذي أشاعه جورج بوش الأب، بعد طرد القوات العراقية من الكويت وإطلاق مؤتمر مدريد حول السلام في الشرق الأوسط؛ والكثير منهم، بعد خيبة الأمل في هذا النظام، عادوا فتعلقوا بحبائل نظريات «المحافظين الجدد» حول نقل «فيروس الديمقراطية» إلى بلدان المنطقة، عبر الاجتياح العسكري المباشر.
وبعد أن يوضح إكسوم أنه كان طرفاً في سلسلة مباحثات مستفيضة مع ممثلين عسكريين واستخباراتيين روس، بدأت في صيف 2015 واستغرقت العام 2016، حول مصير الأسد؛ يستخلص أنّ إنقاذ نظامه، وشخصه استطراداً، كان هاجساً مشتركاً لدى واشنطن وموسكو وطهران، معاً، وهذا مصدر غرابة، أو هو طارئ غير مسبوق، في حيثيات السياسة الخارجية للدول الثلاث، ولكن أمريكا وروسيا خاصة. يكتب الرجل في إفادته: «كان واضحاً لنا أنّ روسيا، رغم إعلانها الانخراط في محاربة الإرهاب، كانت أكثر اهتماماً بتركيز جهودها العسكرية على تدمير ما تبقى من معارضة علمانية وإسلامية معتدلة في وجه نظام الأسد. كنّا جميعاً نعرف أين ينتشر الإسلاميون المتطرفون في مطلع 2016، أي في شرق سوريا وأطراف من شمالها الغربي حيث كانت النصرة قوية بصفة خاصة. روسيا، على العكس، كانت تركز على استرداد تلك المناطق المدينية الكبرى مثل حلب ودمشق، والتي كانت حاضنة مجموعات المعارضة الأكثر اعتدالاً».
ما كان يُطبخ بين واشنطن وموسكو جرى إنضاجه على موقد التفاهمات المشتركة، والتغابي المشترك المتعمّد؛ وتلك، كما يفيدنا تاريخ الحرب الباردة، كان ديدن الكثير من الدبلوماسية الخافية بين العملاقين
في قراءة أخرى، هذه الفقرة لا تأتي بجديد إلا عند الحمقى إياهم، ثمّ عند بعض شرائح «المعارضة» السورية الخارجية، الإسطنبولية إجمالاً، وتلك الجيوب الصغيرة البائسة في الولايات المتحدة وأوروبا، ممّن آمنت بأنّ سقوط النظام على أيدي أوباما بات قاب قوسين أو أدنى؛ وأنّ وضع جميع بيوض هذه «المعارضة» في السلّة الأمريكية، وحتى عبر استطالات سعودية هنا أو تركية هناك، هو الخيار المنطقي الأوّل. بذلك كان فريق البنتاغون، كما يوضح إكسوم في إفادته، يوافق الروس على استئصال المعارضة السورية الداخلية، المدينية العلمانية والإسلامية المعتدلة؛ وفي الآن ذاته يستقبلهم في البيت الأبيض أو وزارة الخارجية، أي يواصل الضحك على عقولهم وذرّ الرماد في أعينهم. هذه، على سبيل المثال فقط، حال اجتماع مستشارة أوباما للأمن القومي، سوزان رايس، مع وفد الائتلاف، برئاسة أحمد الجربا، وعضوية نجيب الغضبان واللواء عبد الإله البشير وميشيل كيلو؛ وكيف فاجأ أوباما الحضور بالانضمام إلى الاجتماع، والتصريح بأنّ «الأسد فقد كلّ شرعية لقيادة سوريا، وليس له مكان في مستقبل البلاد».
في جانب آخر من معادلة التفاهمات الأمريكية ـ الروسية، قالت الأخبار إنّ موسكو قرّبت موعد تنفيذ القسط الأوّل من صفقة سلاح روسية لنظام الأسد (تسع مقاتلات Yak-130، من أصل 36 طائرة، سدّد النظام قيمتها بمبلغ 100 مليون دولار، كجزء من قيمة العقد الإجمالية التي تبلغ 550 مليون دولار). البيت الأبيض، من جانبه، وبعد اجتماع أوباما مع وفد «الائتلاف»، أبقى على تحفظه في توريد أسلحة متطورة إلى «الجيش السوري الحرّ»: ليس مضادات الطائرات وحدها، بل مضادات الدروع أيضاً، أو أيّ وكلّ طراز آخر من الأسلحة يمكن أن تعترض إسرائيل على إدخاله إلى سوريا. على الأرض، في المقابل، كان الجربا قد وصل إلى واشنطن بعد دخول قوّات النظام السوري إلى حمص القديمة، وسقوط مئات الشهداء وتدمير المساكن والأحياء، واستخدام الأسلحة كافة: من القصف الثقيل بالقاذفات، إلى البراميل، فالأسلحة الكيميائية.
هنا فقرة ثالثة، وأخيرة، من الإفادة: «كنّا نرتاب أيضاً في أنّ الروس كانوا يستخدمون المفاوضات كتكتيك تباطؤ لشراء الوقت كي يتمكن تحالفها [أي إيران وحزب الله، كما يوضح إكسوم في فقرات سابقة] من استكمال عملياته العسكرية في حلب وميادين أخرى مفتاحية. ولقد جهدنا، مع شركائنا العرب والأوروبيين، في إرساء حالات وقف إطلاق نار مؤقتة للسماح بإخلاء المدنيين غير المقاتلين وإيصال المساعدات الإنسانية إلى الناس تحت الحصار. وأمّا الروس وشركاؤهم فقد كانوا يوافقون على وقف إطلاق النار حين يلائمهم عسكرياً، وحين كانوا أنفسهم بحاجة إلى الوقت لإعادة التحضير قبيل شنّ هجوم آخر رئيسي». فهل تعني هذه الفقرة أنّ المفاوضين الأمريكيين هم الذين كانوا الحمقى، هذه المرّة؟ الأرجح أنهم لم يبلغوا هذه الدرجة من الغباء وبلادة العقل، وأنّ ما كان يُطبخ بين واشنطن وموسكو جرى إنضاجه على موقد التفاهمات المشتركة، والتغابي المشترك المتعمّد؛ وتلك، كما يفيدنا تاريخ الحرب الباردة، كان ديدن الكثير من الدبلوماسية الخافية بين العملاقين، ويستوي في هذا أشخاص مثل أندريه غروميكو وهنري كيسنجر، أو سيرغي لافروف وجون كيري!
ما لم يعلنه إكسوم في شهادته، وهو أيضاً ما عجزت عن إدراكه معارضة إسطنبول وصبية التعلّق بأذيال أمريكا، أنّ الملفّ السوري عند أوباما ــ وحتى في ذروة تسخينه، على أعتاب «الخطّ الأحمر» الشهير الذي ظلّ جعجعة بلا طحن ــ كان ميدان حربَيْ استنزاف، يجري خوضهما لصالح أمريكا وبالنيابة عنها: إيران، التي لا يضعفها التدخل العسكري في سوريا فقط، بل يربكها إقليمياً، مثلما يورّط «حزب الله بوصفه حربة طهران في الجسم العربي؛ وموسكو، التي ستغرق أكثر فأكثر في «المستنقع»، حسب تعبير أوباما نفسه، ولن تخرج إلا منهكة منحطة القوى أياً كانت المكاسب قريبة الأجل.
ولعل بين أبرز فضائل إفادة إكسوم أنها لا تُبقي أيّ عزاء لحمقى الماضي و… حمقى الحاضر، أيضاً!
القدس العربي