تفيد معطيات القصف التي طاولت مدينة إدلب، في الأيام الفائتة، وعمليات التحشيد العسكري حولها، بأن المعركة الحاسمة مقبلة في هذه المنطقة لإنهاء حال الاستعصاء فيها، وإعادتها إلى سيطرة النظام. وحيث تقود المصالح روسيا إلى الدفع باتجاه معركةٍ من هذا القبيل، أصبحت الضرورة الدافع الأكبر لديها، إن قلت مصالحها في عودة المنطقة إلى سيطرة النظام. ربما يفضّل النظام عدم خوضها، بسبب ما راكمه من خبرةٍ في التفاوض مع المناطق الخارجة عن سيطرته، وأثمرت إعادتها وفق سياسة المصالحات، ومن دون قتال. ولكن، يبدو أن ما توفّره هذه المعركة للروس، من ناحية بقائهم في سورية، يجعلهم يهملون تداعياتها التدميرية على المحافظة، وربما على باقي سورية.
من المحتمل أن يكون الروس هم من دفعوا إلى هذه المعركة، وتؤيد هذا الكلام وقائع تجعل الحل السياسي، أو على الأقل أسلوب التفاوض، قابلَيْن للتطبيق فيها، فللنظام مصلحة، ولا شك، في عودة المنطقة إلى سيطرته، ولكن، وبناءً على تجاربه مع المناطق الأخرى في حمص وحلب وغوطة دمشق ودرعا، وغيرها، والتي أعاد فرض سيطرته عليها وفق مبدأ المصالحات، يمكن أن ينسحب هذا الأمر على إدلب، لأن خوض أي معركةٍ فيها سيكلف الطرفين خسائر لا توصف. كما أن التداعيات المخيفة ستشمل سورية برمتها، مع احتمال أن يتسلّل المسلحون من إدلب إلى مناطق سيطرة النظام، ويسلكوا أسوب حربٍ أخرى مع قواته. وهي تأتي بعد أن ظهر أن مسار السلم أصبح سمة المرحلة في سورية، فتأتي لتقطع مع آمال السوريين في الاستقرار لتحسين أحوالهم.
وهنالك واحدة من أهم الوقائع التي تجعل الحل السياسي قابلاً للتطبيق، وهي العلاقة الجيدة بين
“قد يفرض احتدام المعارك في إدلب على المسلحين فيها أن يهربوا، فيتسللون منها إلى باقي المناطق” موسكو وأنقرة، إذ إن الأخيرة قادرة على الضغط على الفصائل التي تدعمها، للدخول في مسار الحل السلمي في إدلب. ويمكن الدخول في هذا المسار بناءً على اتفاق سوتشي الذي وقعته روسيا وأنقرة، في سبتمبر/ أيلول الماضي، وجاء لتجنيبها حرباً شبيهةً بالتي بدأت بوادرها من خلال التحشيدات والغارات التي طاولتها قبل أيام. ومن هنا، يأتي اليقين، أن للروس مصلحة في عملية عسكرية لإنهاء حال الاستعصاء في هذه المدينة، وليس في حل سلمي. يدفعهم إلى ذلك ما يقال عن بنائهم قاعدة شمال حماة في المنطقة المتاخمة لإدلب، وتحشُّد الفصائل المقاتلة في إدلب، يجعلهم في مرمى نيرانهم. وسيكون ذلك احتمالا قائما طوال الوقت، بالنظر إلى حقيقة الاستهداف الدائم لقاعدة حميميم الروسية، وكان جديدها الذي تعرّضت له القاعدة قبل أيام ونهاية الشهر الماضي (إبريل/ نيسان)، أي بعد بدء الغارات الروسية على إدلب، واتهمت روسيا المعارضة المسلحة بالمسؤولية عنه. ولهذا الأمرـ لن تألو روسيا جهداً في القضاء على أي جيبٍ متمردٍ يشكل تهديداً لأكبر قاعدة عسكرية لها خارج أراضيها، ولوجودها الاستراتيجي في المنطقة، على السواء. كما يدفع الروس إلى القيام بعملية عسكرية ربما خوفهم من أن حلاً سياسياً وفق مبادئ جنيف قد يفقدهم ما حققوه من اتفاقياتٍ طويلة الأمد، ومنها ما هو مُجحف بحق الطرف السوري، فقد يتضمن اتفاق الحل السلمي في سورية، وفق المبادئ المذكورة، بنداً ينص على إعادة النظر في جميع الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي أبرمتها الحكومة السورية في زمن الحرب، كونها أُبرمت في ظروفٍ استثنائيةٍ، سِمَتُها النزاعات التي شملت أكثر من 75% من أراضي البلاد. وفي هذه الحال، ستعد جميع الاتفاقيات التي عقدتها روسيا مع الحكومة في دمشق لاغية، سيما المتعلقة بالتنقيب عن النفط والغاز في البحر، علاوة على اتفاقية إدارة ميناء طرطوس، وغيره من المرافق المهمة في البلاد. وقد يدخل في هذا الإطار القواعد العسكرية الأميركية والإيرانية والتركية، وليس الروسية وحدها.
بقيت معركة إدلب تؤجل، حتى سبتمبر/ أيلول الماضي، عندما أعلن مصدر عسكري سوري
“للروس مصلحة في عملية عسكرية لإنهاء حال الاستعصاء في هذه المدينة، وليس في حل سلمي” عن مرحلةٍ أولى في معركة إدلب، تستهدف الأجزاء الجنوبية والغربية من المحافظة، من دون أن تطاول المدينة، وقد دعا الجيش السوري حينها المدنيين إلى الخروج منها إلى المناطق الموالية له، حفاظاً على حياتهم. وكان الغرض يومها السيطرة على طرقاتٍ مهمةٍ تؤدي إلى حلب. وبسبب وضع المدينة المعقد، نتيجة التجاذبات بين تركيا وإيران وروسيا حولها، كان إعلان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، يومها عن وجود تفاهماتٍ بين هذه الأطراف الثلاثة بشأن التمييز بين المعارضة السورية المدنية والإرهابيين في المدينة، وكان ذلك اعترافا من الجميع بوضع المدينة المعقد. ولكن، لم تُشن الحرب يومها، ربما لهذا السبب، فتأجلت حتى هذه الأيام.
تجمع المسلحون المعارضون للنظام السوري من كل أنحاء سورية في محافظة إدلب، على مدى السنوات الأخيرة، بمقتضى اتفاقيات المصالحة التي كانوا يعقدونها مع النظام. وبات تمركزهم فيها بمثابة الملاذ الأخير لهم، لا يستطيعون الخروج منها إلى المهاجر، وتضيق المدينة بهم، وتُستنزف مواردها، وتبقى احتمالات المعارك الداخلية بينهم قائمةً، لتعدد الفصائل المعارضة المتنوعة الموجودة فيها. وعلى الرغم من ذلك، قد تقود كثافة المقاتلين إلى احتدام المعارك، كما لم تكن من قبل، وسيؤدي ذلك إلى تدمير المدينة لتلحق بالمدن المدمرة، كما سيلفّ الغموض مصير ثلاثة ملايين شخص يقطنونها، وهم سكانها والذين لجأوا إليها من المناطق الأخرى التي دمرت، أو التي أجريت فيها مصالحاتٌ نصت على خروج المسلحين وعائلاتهم، ومن أراد من الأهالي إلى إدلب.
قد يفرض احتدام المعارك في إدلب على المسلحين فيها أن يهربوا، فيتسللوا منها إلى باقي المناطق، وربما يتخذون من مناطق، كانت في يد النظام، مراكز تصبح مقرّاتٍ سريةٍ لهم لاستنزاف الجيش السوري. وفي هذا الحال، تكون البلاد قد دخلت مساراً آخر مغايراً للمسار السلمي المأمول، والذي كان السوريون، من موالين ومعارضين، يتمنون أن تدخل البلاد فيه، حفاظاً على أرواح من تبقوا من أبنائهم.
العربي الجديد