بعد أقل من شهر على تعيين حسين سلامي قائداً عاماً للحرس الثوري الإيراني، في 22 إبريل/نيسان الماضي، خلفاً للجنرال محمد علي جعفري، أجرى المرشد الإيراني علي خامنئي تعيينات جديدة في مناصب قيادية مهمة في الحرس الثوري، يوم الخميس الماضي، لها دلالات واضحة تنبئ بالتوجه العام للسياسة الإيرانية وللحرس الثوري خلال المرحلة المقبلة على وقع المتغيرات الجديدة في المنطقة. وعيّن خامنئي العميد علي فدوي (58 سنة) نائباً للقائد العام للحرس الثوري، وهو المنصب الذي كان يحتله سلامي قبل تعيينه قائداً عاماً للحرس، والعميد محمد رضا نقدي (58 سنة) منسقاً عاماً في الحرس، وهو المنصب الذي كان يشغله فدوي قبل ذلك. وفي بيان أهمية موقع فدوي الجديد، يكفي القول إنه أصبح الرجل الثاني في الحرس الثوري. كما أن المنصب، الذي أسند إلى نقدي، يُعتبر من أهم المواقع الحساسة في هيكلية الحرس، كونه يتولى شؤون التنسيق بين جميع أركانها وقواتها الأربع: البرية والبحرية والجوفضائية وفيلق القدس.
”
فدوي ونقدي من أكثر قيادات الحرس الثوري عداءً لأميركا وحلفائها الإقليميين
” وجاءت هذه التعيينات في سياق ظروف ومعطيات مهمة للغاية، منها ما يخص الحرس نفسه بعد تصنيفه “جماعة إرهابية” من قبل واشنطن، في الثامن من إبريل/ نيسان الماضي. كما أن الحرس الثوري في صلب الملفات المرتبطة بإيران، التي تثيرها الإدارة الأميركية، سواء ما يرتبط ببرنامجها الصاروخي أو دورها الإقليمي، وهما الموضوعان الرئيسيان اللذان تذرع بهما الرئيس الأميركي دونالد ترامب في قرار الانسحاب من الاتفاق النووي. وقال سلامي، الأربعاء الماضي، إن بلاده تمر في الوقت الراهن بظروف “أكثر حساسية من أي وقت مضى وأكثر لحظة حاسمة في تاريخ الثورة الإسلامية” بسبب الضغوط القصوى التي يمارسها “العدو”، في إشارة إلى الولايات المتحدة الأميركية.
وفي قراءة سجل الرجلين، يتبيّن أنهما من أكثر قيادات الحرس عداء للولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين، وهما من أصحاب مواقف متشددة وتصريحات عالية النبرة، لا تخلو من مهاجمة “العدو” أو “الأعداء”، أو من يصفونهما بالتابعين لهم في الداخل الإيراني. وهو عامل مشترك حضر بقوة في كافة التعيينات التي طاولت مناصب قيادية في الحرس الثوري، بدءاً من أغسطس/ آب الماضي، بعد اختيار العميد علي رضا تنغسيري قائداً للقوات البحرية، مروراً بتعيين سلامي قائداً عاماً للحرس الثوري، وصولاً إلى التعيينات الأخيرة. واللافت في هذا الصدد، أن العميد فدوي، الذي عيّن نائباً لسلامي، هو الذي أشرف على عملية احتجاز الجنود الأميركيين العشرة في يناير/ كانون الثاني عام 2016 بعدما دخلوا المياه الإقليمية الإيرانية، بصفته قائد القوات البحرية للحرس آنذاك، ما دفع خامنئي إلى تقليده وسام “الفتح”، وهو من أرفع الأوسمة العسكرية الإيرانية، مكافأة على تنفيذه العملية.
وأمس الأحد، في حفل التسليم والتسلم، علّق رئيس المكتب العسكري للقيادة العامة للقوات المسلحة الإيرانية، محمد شيرازي، على أسباب تعيين فدوي نائباً للقائد العام للحرس، قائلاً إنه “بناءً على المهام التي أوكلت إلى القائد العام للحرس في المجال العملياتي، كان هو بحاجة إلى رجل عملياتي، والعميد فدوي لديه خبرة عملياتية طويلة”، مشيراً، في الوقت ذاته، إلى توكيل “مهام منقطعة النظير” للحرس الثوري، من دون أن يكشف عن طبيعتها. ولعل الرسالة الأولى التي تحملها التعيينات الأخيرة اللافتة في الحرس الثوري الإيراني هي باتجاه واشنطن، ومفادها أن طهران لا تنوي التراجع أمام ضغوطها وإنما تدفع بقياداتها العسكرية الأكثر عداءً لها إلى الواجهة في سياق ما يمكن اعتباره استراتيجية “اتخاذ وضعية الهجوم”، والتي، على ما يبدو، بدأت تمارسها إيران منذ الثامن من الشهر الحالي، تجاه استراتيجية “الضغوط القصوى” الأميركية، بعدما كشفت عن جملة قرارات تعلّق بموجبها تنفيذ بعض تعهداتها النووية، للرد على هذه الضغوط وكذلك مماطلات الشركاء الخمسة للاتفاق النووي في تنفيذ تعهداتهم.
وفي السياق، يمكن تفسير تصريحات سلامي، أول من أمس السبت، والتي قال فيها إن “الأميركيين كانوا يتصورون أنّهم مهما شددوا ضغوطهم، لن يرد الإيرانيون، لكن القرارات والإجراءات الأخيرة للجمهورية الإسلامية هدمت هذه التصورات”. سلامي لم يوضح المقصود بهذه الإجراءات التي قامت إيران باتخاذها في مواجهة التصعيد الأميركي، لكن فضلاً عن القرارات النووية “المرحلية”، وبحسب وسائل إعلام إقليمية وعالمية، فقد قامت طهران بتحريك حلفائها في ساحات المواجهة في المنطقة، ما دفع وزارة الخارجية الأميركية إلى الطلب من العاملين “غير الأساسيين” في السفارة الأميركية في بغداد وقنصليتها في أربيل مغادرة البلاد. كما أن مراقبين قرأوا، في السياق ذاته، حادثي تفجيرات الفجيرة، الأسبوع الماضي، والتي استهدفت ناقلات نفط سعودية وإماراتية، وهجمات الحوثيين على منشآت نفطية سعودية عبر طائرات مسيرة.
إلا أن استراتيجية “اتخاذ وضعية الهجوم” لا تمثل خروجاً إيرانياً كاملاً على استراتيجية “الصبر الاستراتيجي” التي لطالما تمسكت بها خلال عام منذ الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، في مايو/ أيار 2018، وهذا ما تكشفه الطبيعة المرحلية للقرارات الإيرانية الأخيرة. لكن الوضعية الجديدة تمثل بداية نهاية لاستراتيجية “الصبر”، بانتظار ما تحمل الأيام المقبلة في جعبتها على صعيد التصعيد الأميركي. ويؤشر ذلك إلى أن وضعية “الهجوم” التي أصبحت طهران تتخذها تأتي أيضاً في سياق سياسة “الردع” و”إرسال الرسائل المشفرة”، خصوصاً أنه، وكما يُستشف من مجمل التصريحات الإيرانية خلال هذه الفترة، فإن عدم وقوع الحرب أمر محسوب بالنسبة للجانب الإيراني كما يبدو.
”
وضعية الهجوم التي أصبحت طهران تتخذها تأتي في سياق سياسة الردع وإيصال الرسائل المشفرة
” إلى ذلك، يبدو أن الحسابات الأمنية والاستخباراتية تحت ضغط التحديات الأمنية التي تواجهها إيران، كانت حاضرة أيضاً لحظة اتخاذ القرار بالتعيينات الجديدة، وهو أمر تؤكده الخلفية الأمنية للعميد نقدي الذي تولى قيادة التنسيق في الحرس الثوري من جهة، وتصريحات القائد العام للحرس الثوري الإيراني، يوم السبت الماضي، من جهة أخرى، إذ قال سلامي إنّ طهران تخوض اليوم معركة شاملة مع واشنطن، على المستوى الاستخباراتي، تشمل مجالات “الحرب النفسية والحرب الإلكترونية والتحرّكات العسكرية والدبلوماسية عامة، وبث الرعب والخوف”. وتقلد نقدي مناصب أمنية عديدة، خلال العقود الماضية، بالإضافة إلى امتلاكه سجلاً عسكرياً عابراً للحدود الإيرانية، من خلال توليه سابقاً قيادة فيلق “بدر” العراقي التابع للمجلس الأعلى الإسلامي في عام 1986، تحت اسم مستعار هو “شمس”، ما يعكس دلالات عدة بشأن المرحلة المقبلة. وفي السياق، أشار القائد العام للحرس الثوري الإيراني، خلال كلمة له أمس الأحد في حفل التسليم والتسلم لقيادة التنسيق في الحرس، إلى أن “العميد نقدي عاش كل حياته في الجهاد، سواء داخل إيران أو في الأراضي البعيدة”.
ولا تقتصر دلالات التعيينات الأخيرة على بعدها الخارجي، أو ما يرتبط بالصراع الأميركي الإيراني المتصاعد فحسب، بل لعل لأبعادها الداخلية أيضاً أهمية لا تقل عن أبعادها الخارجية، خصوصاً إذا ما أضفنا إليها تعيينات أخرى، أجراها سلامي، يوم السبت الماضي، في جهاز استخبارات الحرس الثوري، شملت تعيين حسن محقق نائباً لرئيس الجهاز رجل الدين حسين طائب، بعد إبقاء الأخير في منصبه. وطائب معروف بمواقفه المتشددة تجاه الإصلاحيين ومن يوصفون في الأدبيات الثورية الإيرانية بأصحاب “الفتنة”، وهو مصطلح يطلق على “الحركة الخضراء” التي نشأت احتجاجاً على نتائج انتخابات الرئاسة في عام 2009، والتي أوصلت الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد إلى ولاية ثانية. ومن اللافت أيضاً أن أحمدي نجاد قد وجّه انتقادات “حادة” إلى طائب خلال العامين الأخيرين.
إلى ذلك، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن معظم المعينين، من قبل المرشد الإيراني علي خامنئي، يبقون في مسؤولياتهم المدنية والعسكرية لمدة 10 سنوات، كما جرت العادة خلال العقود الماضية، فستكون القيادات الجديدة للحرس الثوري من أهم مكونات رسم المشهد الإيراني، داخلياً وخارجياً، بكل تفاصيله خلال العقد المقبل، وخصوصاً أن البلاد قد تكون خلال هذا العقد أو في العقد الخمسيني لـ”الثورة الإسلامية” أمام استحقاقات داخلية في غاية الأهمية، لعلّ أهمها هو موضوع خلافة المرشد الحالي الذي سيدخل بعد شهرين في ثمانينيات عمره.
العربي الجديد