لن تكون معركة إدلب في شمال سورية مفتوحة وواسعة من ناحية الجغرافيا العسكرية، ليس لأن في إدلب عديدا بشريا هائلا من المقاتلين المدرّبين جيدا، ويمتلكون أسلحة متوسطة وثقيلة، كما تروج شخصياتٌ في المعارضة العسكرية، لأسباب إعلامية، إذ لا معركة ناجحة من دون السيطرة على الجو. وقد أثبتت معارك كثيرة، بما فيها معارك ريف حماة الشمالي الجارية، كيف أن قوات النظام لم تلجأ في سيطرتها على المدن والبلدات إلى الالتحام العسكري المباشر، بقدر ما اعتمدت على كثافة النيران الجوية التي دفعت المعارضة إلى الانسحاب، وأجبرتها على اعتماد تكتيك الهجمات المباغتة خلف خطوط النظام، ثم الانسحاب سريعاً.
لن تكون معركة إدلب واسعةً لأسباب سياسية، لا عسكرية، فالوقت والأوضاع الاستراتيجية في الساحة السورية لا يسمحان بفك العلاقة بين موسكو وأنقرة، بسبب حاجة كل طرف للآخر، وتبدو روسيا بحاجة إلى تركيا أكثر من حاجة الأخيرة للأولى، سواء على صعيد ترتيب الشمال السوري، أو على صعيد ترتيب الأوراق السياسية التي تلعب فيها تركيا دور المايسترو. وهذا ما يفسر الصمت التركي خلال الأيام الأولى للمعركة، ويوحي بأن ثمّة تفاهما ضمنيا حول
“هناك سيناريو تفاهم روسي ـ تركي خلال أيام لوقف المعارك، مقابل احتفاظ النظام بالبلدات التي سيطر عليها” حدود المعركة وأهدافها، لكن كسر أنقرة صمتها، وتفعيل دبلوماسيتها تجاه موسكو أخيرا يوحي بأنها بدأت تستشعر مخاطر المعركة والأهداف البعيدة منها، بسبب حجم القصف الكبير، من جهة، والبرودة الروسية حيال التعاطي مع المطالب التركية، من جهة ثانية.
ولا يبدو، في هذا الصدد، أن مجموعة العمل المشتركة المعنية بملف إدلب، والتي توافق عليها الطرفان الروسي والتركي أخيرا، ذات أجندة مستعجلة، بقدر ما هي محاولةٌ روسيةٌ لتمرير الوقت، من أجل تحصيل مكتسباتٍ على الأرض، نتيجة صعوبة المرحلة الثانية من المعركة التي تتضمن السيطرة على بلدات مورك واللطامنة وكفرزيتا في ريف حماة الشمالي، وبلدة الكبانة الاستراتيجية في جبل الأكراد في ريف اللاذقية الشمالي الشرقي، وصولاً ربما إلى جسر الشغور.
وإذا كانت بلدة الكبانة تعتبر بوابة استراتيجية للدخول إلى مدينة جسر الشغور غربي إدلب، فإن مورك واللطامنة وكفرزيتا تعتبر بوابة استراتيجية أخرى للوصول إلى مدينة خان شيخون جنوبي إدلب.
وهنا، تظهر مخاوف تركيا، وما سرب عن رفع الأخيرة من مستوى خطابها التحذيري، وتوزيعها أسلحة متطوّرة لبعض فصائل المعارضة، لمنع النظام من الوصول إلى نقاط جغرافية، تعتبر تهديدا مباشرا لفصائل المعارضة والوجود التركي معا. وفي هذا الصدد، ثمّة ثلاثة سيناريوهات محتملة لمعركة إدلب:
أولاً، حصول تفاهم روسي ـ تركي خلال أيام لوقف المعارك، في مقابل احتفاظ النظام بالبلدات التي سيطر عليها، لكن هذا السيناريو بعيد جدا، لأن النظام لن يقبل الاكتفاء بهذه المناطق، بعدما أعطي له الضوء الأخضر بإطلاق معركة ينتظرها منذ زمن.
ثانيا، الاستمرار في المعارك للسيطرة على كامل ريف حماة الشمالي، خصوصا بلدات مورك واللطامنة وكفر زيتا، وتعتبر مدينة مورك الأكثر أهميةً، كونها قلعة المعارضة التي يصعب اقتحامها، وقد حاول النظام خلال السنوات الماضية اقتحامها مرّات عديدة، وفشل في ذلك. وتتطلب هذه العملية وقتا طويلا، بسبب الحضور القوي للفصائل، خصوصا هيئة تحرير الشام
“الاستمرار في المعارك للسيطرة على كامل ريف حماة الشمالي، خصوصا بلدات مورك واللطامنة وكفر زيتا” وجيش النصر وجيش العزة، وحجم التحصينات فيها.
ثالثا، عدم الاكتفاء بريفي حماة الشمالي واللاذقية الشمالي الشرقي، والانتقال إلى محافظة إدلب، للسيطرة على نقطتين متقدمتين: الأولى مدينة جسر الشغور غربي المحافظة، وهذا لا يتم إلا بحصول اختراق من قوات النظام، إما لبلدة الكبانة في جبل الأكراد في ريف اللاذقية الشمالي الشرقي، أو السيطرة على جبل شحشبو الاستراتيجي الحاكم الذي يقع في أقصى ريف حماة الشمالي الغربي ويطل على سهل الغاب. الثانية، مدينة خان شيخون جنوبي محافظة إدلب، وهذا يتطلب السيطرة على مورك واللطامنة وكفر زيتا، أو تركها واعتماد بلدة كفرنبودة قاعدة للانتقال إلى بلدة الهبيط في إدلب، وصولا إلى خان شيخون.
وليس معروفا حقيقة بعد مدى إمكانية نجاح هذه السيناريو، خصوصاً أن مدينتي جسر الشغور وخان شيخون تقعان ضمن المنطقة العازلة 15 ـ 20 كلم المتفق عليها في سوتشي. ولكن، في حال وصول قوات النظام إلى هذا العمق، فإن واقعا جديدا سينشأ في إدلب، وسيكون النظام على مرمى من الوصول إلى قلب المحافظة. وبطبيعة الحال، لن ترضى تركيا بذلك، إلا إذا كانت هناك مقايضة جغرافية، مثل تل رفعت ومحيطها.
وهناك سيناريو رابع، هو وصول النظام إلى منتصف المحافظة، للسيطرة على مدينة سراقب التي يمر منها الطريقان الدوليان، حلب ـ حماة و حلب ـ اللاذقية، لكن هذا الاحتمال بعيد جداً، فالأمر لا يتطلب السيطرة على سراقب لفتح الطريقين الدوليين، إذ إن دخول النظام إلى أطراف المحافظة أمر كاف لفرض وقائع جديدة، تؤدي، بالضرورة، إلى تنفيذ ما لم يتم تنفيذه من بنود اتفاق سوتشي.
بناء على ذلك، من المبكر الحديث عن أي من هذه السيناريوهات سيتحقق، سيما أن هناك تفاهمات سرية بين أنقرة وموسكو لا تعلن في وقتها، وإنما بعد أن يتم عرضها على أرض الواقع.
العربي الجديد