في الأدبيات السياسية الشيعية، يتوقف المؤرخون عند الصلح الذي عقده الحسن بن علي بن أبي طالب، الإمام الثاني لدى الشيعة الاثني عشرية، مع معاوية بن أبي سفيان، ووضع فيه حدا للحرب التي نشبت بينهما على منصب الخلافة. يومها وافق الحسن على التنازل عن حقه في الخلافة لمعاوية، مشترطا أن تعود الخلافة له في حال وفاة معاوية، وكان هو على قيد الحياة، أو تتحول إلى شقيقه الحسين في حال لم يكن الحسن على قيد الحياة. وقد سميت السنة التي تم فيها الصلح بـ»عام الجماعة».
وفي الأدبيات السياسية الإيرانية، استذكرت قيادات من التيار المحافظ المتشدد كتابا بعنوان «صلح الحسن» للشيخ راضي آل ياسين، سبق لمرشد النظام آية الله علي خامنئي أن ترجمه من العربية إلى الفارسية، وقد أضاف له عنوانا فرعيا باسم «الدينامية البطولية الأعظم في التاريخ» التي ساهمت، على حد توصيفه، بأنها «حافظت على النظام والحكومة في إطار إسلامي»، وذلك بعد القرار «التاريخي» الذي أعلنته ايران بالتوقيع على الاتفاق النووي مع مجموعة دول 5 +1 بمشاركة الولايات المتحدة الأمريكية، الشيطان الأكبر.
هنا لا بد من إشارة تصويبية، وهي أن رئيس الجمهورية حسن روحاني والفريق المفاوض بقيادة محمد جواد ظريف ما كان بمقدورهم الموافقة على نص الاتفاق، والشروط التي جاءت فيه، والالتزامات والتعهدات التي فرضها على إيران، ما لم يحصلوا وبشكل صريح على موافقة المرشد الأعلى الذي في يده تتركز عملية رسم السياسات الدولية والداخلية والاستراتيجية العامة للنظام. لذلك فإن الكلام الأخير للمرشد الأعلى في لقائه مع الطلاب حول عدم التزام روحاني وظريف بالتوجيهات التي قدمها حول نص الاتفاق، تتعارض مع اعتراف روحاني بأن التوقيع النهائي لم يحصل من دون موافقة «القائد» الراعي الأول والأخير لمسار التفاوض، الذي كان يتم تعطيله في كل خطوة حساسة، من أجل الوقوف على رأيه، حتى ولو اقتضى الامر أن يترك الوفد الإيراني المفاوض مكان الاجتماع والعودة إلى طهران لأخذ التوجيهات والتعليمات. الإسقاط التاريخي كانت وظيفته محاولة تسويغ الحوار مع واشنطن، وتقديم التنازلات والتوقيع على الاتفاق النووي، وللقول إن الاستدارة التي قامت بها طهران كانت من أجل حفظ النظام واستمرار الثورة والدولة. وقد حصلت إيران على معاهدة تشبه المعاهدة بين الحسن ومعاوية. وهي تتمسك بها، على الرغم من الانسحاب الامريكي الذي يعتبرها غير منصفة له وغير وافية ولا تشمل جميع مصادر القلق الدولي والاقليمي.
ما تحدث عنه وزير خارجية سلطنة عمان، بعد زيارته إلى العاصمة الإيرانية واجتماعه مع نظيره ظريف، حول آلية تفاوض بعيدا عن الضغوط، وما نشره مكتب المرشد حول المحددات والشروط التي وضعها عام 2015 على الفريق الايراني المفاوض، وضرورة المحافظة عليها في الاتفاق المزمع عقده، والتي تتحدث عن توصيات بالامتناع عن الموافقة على تضمين الاتفاق شيئا يتعلق باستيراد أي من المنتجات الاستهلاكية الامريكية، تكشف المسار الممكن مستقبلا، الذي قد تسلكه آليات خفض التصعيد بين الطرفين، وعدم الانزلاق الى حرب شاملة لا تبقي ولا تذر. مواقف القيادات السياسية والعسكرية الايرانية تؤكد على استعداد ايران للتفاوض، لكن ليس في ظل العقوبات التي تعتبرها طهران من دون دليل وغير منطقية، على الرغم من التزامها التام بنصوص ومواد الاتفاق الموقع مع القوى الكبرى. وأن الحل لهذا التوتر والتصعيد العسكري الذي يهدد المنطقة والعالم يأتي عن طريق تخفيف الشروط الامريكية المحرجة، التي تعيق الجانب الايراني عن الموافقة على الجلوس الى طاولة المفاوضات، وانه في حال خفف الجانب الامريكي من هذه الشروط، فإن طهران على استعداد لفتح كل الملفات التي تشكل مصدر قلق لواشنطن وحتى لحلفائها في المنطقة.
مواقف القيادات السياسية والعسكرية الإيرانية تؤكد استعداد ايران للتفاوض، لكن ليس في ظل العقوبات غير المنطقية
تخفيف الشروط المسبقة، التي تطالب به طهران، ووضع حد للمسار التصاعدي في فرض العقوبات، سيساعد القيادة الإيرانية على الدخول في مفاوضات شاملة ومع الولايات المتحدة مباشرة، ومن دون الحاجة إلى الجانب الأوروبي، الذي لم يقف الى جانب طهران في أزمتها مع الحصار الامريكي. وستكون طهران على استعداد لمناقشة كل الملفات من دون أي «محرمات»، خاصة ما يتعلق بموضوع نفوذها الإقليمي، والعداء مع إسرائيل، وعملية السلام في الشرق الاوسط، مقابل الاعتراف لها بحصتها في ادارة الاقليم وفي ان تكون شريكا صاحب ثقل في أي نظام أمن إقليمي، يتولى مهمة الحفاظ على استقرار المنطقة.
أما في ما يتعلق بالجانب الاقتصادي والتجاري، فمن المحتمل أن تربطه ايران بمدى النجاحات التي قد تتحقق على المسارين السياسي والأمني، أي بعد عملية بناء الثقة بين الطرفين. وقد حاولت طهران بعد التوقيع على الاتفاق أن تبعث برسائل لواشنطن حول أفق التعاون الاقتصادي والتجاري، من خلال العقد الأولي الذي وقعته مع شركة «بوينغ» لصناعة الطائرات لشراء أكثر من 100 طائرة في المرحلة الاولى، إلا أن قرار الانسحاب من الاتفاق وعودة ترامب الى فرض العقوبات شكل سدا أمام المضي بهذا الاتجاه. استمرار التوتر والشحن والتصعيد العسكري والسياسي بين طهران وواشنطن، قد يشكل في حال استمر لفترة طويلة أزمة وعبئا، فواشنطن تريد الوصول إلى إجبار إيران على القبول بتفاهمات جديدة وشاملة في أسرع وقت ممكن، وتريد وضع حد لهذا الاستنزاف جراء الاستنفار العسكري الطويل. وطهران في المقابل، تريد الوصول إلى حل يضع حدا لتفاقم أزمتها الداخلية، ويعيد الحيوية لدورتها الاقتصادية والإنتاجية، ويوفر عليها تداعيات مواجهة أي أزمة شعبية نتيجة الحصار والعقوبات. ما يعني أن الطرفين قد يكونان بحاجة إلى الاعتراف بضرورة التفاوض المباشر، وأن يمتلكا الشجاعة لبدء مسار حواري وتفاوضي بالحد الادنى من الشروط، التي تسمح لهما بالجلوس في مواجهة بعضهما البعض الاخر، وبالتالي التوصل إلى سلام وصلح بينهما، على قاعدة حفظ المصالح والاستمرار، صلح لا تنعكس إيجابياته على البلدين فقط، بل على كل المنطقة وتضعها على سكة الحلول للازمات التي تعاني منها.
في تعليقه على صلح الحسن يقول خامنئي حرفيا «لقد ذكرت في باب صلح الحسن(ع)، هذه المسألة عدة مرات وقد دونتها الكتب ايضاً، وهي أنّ أي شخص ـ حتى أمير المؤمنين (ع) نفسه ـ إذا كان محل الإمام الحسن المجتبى(ع)، وعاش تلك الأوضاع، لا يمكن أن يعمل عملاً غير الذي عمله الإمام الحسن، ولا يمكن لأحد أن يدعي أن الإمام الحسن (ع) قد أخطأ في جانب من جوانب عمله، كلا فإنّ عمل ذلك الإمام العظيم قائم على الاستدلال المنطقي مئة في المئة، وغير قابل للتخلف والاختلاف». (السيد علي خامئئي ونظرات في صلح الأمام الحسن).
القدس العربي