تحدثت وسائل الإعلام عن «مهلة أسبوعين» منحتها واشنطن لأنقرة للتخلي عن صفقة صواريخ s400 الروسية. وإذ انقضى نصف المهلة المذكورة، نشرت «رويترز» خبراً عن بدء مباحثات تركية ـ أمريكية لشراء صواريخ باتريوت!
وكان أحد أهداف التصعيد الروسي الكبير في قصف ريفي حماة وإدلب، مع محاولات قوات النظام والميليشيات التابعة لإيران التقدم على الأرض، هو الضغط على أنقرة كيلا تتخلى، في اللحظة الأخيرة، عن صفقة الصواريخ الروسية، إضافة لسلة المطالب الروسية من تركيا لـ«الوفاء بالتزاماتها» وفقاً لاتفاق سوتشي. ثم تغيرت وجهة المعارك، تكتيكياً، لمصلحة الفصائل المدعومة من تركيا، وخصوصاً في كفرنبودة، حيث تكبدت القوات المهاجمة خسائر كبيرة في الفترة الأخيرة. وتحدثت التقارير الإعلامية عن دعم جدي تلقته تلك الفصائل من تركيا بالسلاح والذخائر. يمكن القول، إذن، إن التقارب الأمريكي ـ التركي الذي ظهرت ملامحه الأولية، يقابله تباعد روسي ـ تركي، بصورة لا مفر منها. فهل حسمت تركيا ترددها الطويل لمصلحة حليفها التقليدي، ومستعدة لتحمل تبعات الابتعاد عن روسيا بعد شهر عسل طويل؟
ولكن ما هي الصفقة الأمريكية لتركيا التي على أساسها ستعيد الأخيرة تموضعها بعيداً عن روسيا، وربما خارج «ثلاثي آستانة»؟ وهل لهذه المستجدات علاقة بالتصعيد الأمريكي ضد إيران؟
الرسالة التي وجهها 400 من أعضاء الكونغرس من الحزبين الجمهوري والديمقراطي إلى الرئيس دونالد ترامب بشأن السياسة السورية لواشنطن في إطار الضغط على كل من إيران وروسيا، ربما أغرت القيادة التركية بإمكانية العودة إلى ما قبل العام 2015 في سوريا، أي عودة الأمل التركي في تغيير نظام الأسد، بعد سنوات من تخليها عن ذلك، ودخولها في إطار التسوية على الطريقة الروسية، وانشغالها بالتركيز حصراً على محاربة «قوات سوريا الديمقراطية». لهذا التغيير المحتمل مستتبعات داخلية أيضاً في العلاقة مع كرد تركيا، ظهرت بعض مؤشراتها الطفيفة في الشهر الحالي: رفع حالة منع الزيارات عن عبد الله أوجالان بصورة دائمة. وقد تلقى سجين «إيمرالي» زيارتين من محاميه، في 2 و22 أيار. في رسالته الثانية التي وجهها لـ«كل القطاعات الاجتماعية والأحزاب السياسية والدولة» في تركيا، حسب تعبيره، وجه زعيم حزب العمال الكردستاني نداءً صريحاً للمضربين عن الطعام، في السجون وخارجها، لإنهاء إضرابهم بعدما حقق هدفه في إنهاء عزلة أوجالان، وهو ما تحقق فعلاً، ليشكل ذلك، بالنسبة للحكومة، مدخلاً للتخفيف من الانتقادات الأوروبية الحادة بشأن انتهاكات حقوق الإنسان في تركيا.
والنقطة الثانية التي تحدثت عنها رسالة أوجالان هي دعوته للعودة إلى روح 2013 أي الحوار الديمقراطي بين الكرد والحكومة، بعيداً عن لغة العنف التي سادت في السنوات الأربع الأخيرة. لكن المفاجأة الأبرز كانت في النقطة الثالثة المتعلقة بسوريا. فقد أبدى «آبو» استعداده للعب دور إيجابي في حل المشكلات العالقة في سوريا وصولاً إلى إنهاء الصراع، ليس فقط بشأن شمال سوريا وشمالها الشرقي، بل أيضاً في الصراعات السورية ككل، مركزاً على أهمية «الضمانات الدستورية» لحقوق الكرد والجماعات الأخرى في سوريا ما بعد الحرب. وتأكيداً للتناغم التام بين أوجالان وبيئته الحزبية في الخارج، أكد الرئيس السابق لحزب الاتحاد الديمقراطي صالح مسلم، في تصريحات إعلامية، أن باستطاعة القائد أوجالان أن يبتكر حلولاً للصراع في سوريا إذا أتيحت له إمكانية العمل.
عودة الأمل التركي في تغيير نظام الأسد، بعد سنوات من تخليها عن ذلك، ودخولها في إطار التسوية على الطريقة الروسية، وانشغالها بالتركيز حصراً على محاربة «قوات سوريا الديمقراطية»
ماذا يعني «ابتكار الحلول» بالنسبة لشخص كأوجالان؟ هل يتعلق الأمر بشح في «الأفكار الخلاقة» مثلاً لحل معضلات عجز الجميع عن حلها؟ أم أن ذلك يعني استخدام أوجالان لنفوذه بين أنصاره لإجراء تغييرات كبيرة في سياسة «العمال الكردستاني» وفرعه السوري «الاتحاد الديمقراطي» ومظلته المتمثلة في «مجلس سوريا الديمقراطي» و«قوات سوريا الديمقراطية»؟ وقد أعطى أوجالان، في كلتا رسالتيه، إشارة مهمة لنوع «التكويع» الذي يستعد لإجرائه في سياسة حزبه في سوريا: «أخذ الهواجس التركية بعين الاعتبار». هذا هو مفتاح فهم المرحلة القادمة. فبوساطة من المفوض الأمريكي للشؤون السورية جيمس جيفري تجري مباحثات بين تركيا و«قوات سوريا الديمقراطية» بخصوص «المنطقة الآمنة» التي طالما طالبت بها أنقرة مصيراً لشرقي نهر الفرات بعد الانسحاب الأمريكي المفترض الذي تم تعليقه إلى أجل غير مسمى.
الأمريكيون يعملون، إذن، على إيجاد تفاهم بين حليفيهم التركي والكردي بشأن مصير شرقي نهر الفرات، للوصول إلى صيغة جغرافية ـ سياسية تحفظ نفوذ القوات الكردية في المنطقة وتلبي الهواجس الأمنية التركية في الوقت نفسه. الهدف الأمريكي من ذلك هو تركيز الجهود لمواصلة الضغط على إيران وصولاً لطرد ميليشياتها من الأراضي السورية. ويتضمن هذا الهدف بقاء قسم من القوات الأمريكية بما يشكل ضغطاً مستمراً على روسيا أيضاً لكي لا تستفرد بتقرير مصير سوريا بما يناسبها. وتدور تكهنات عن أن التفاهم المطلوب أمريكياً، بين الأتراك والكرد، لا يقتصر على الملف السوري، بل يشمل أيضاً العودة إلى المسار السلمي داخل تركيا نفسها. فمن غير استعادة أجواء الحوار الداخلي التركي ـ الكردي، لا يمكن لأوجالان أن يفعل شيئاً في سوريا.
في الوقت الذي ساد فيه تفاؤل حذر بشأن البدء بتغيير السياسة الكردية للحكومة التركية، من العنف والاقصاء إلى الحوار، جاءت العملية العسكرية التركية الجديدة التي استهدفت شمال العراق حيث يتمركز مقاتلو حزب العمال الكردستاني، كأنما لتبديد أي أوهام حول التغيير المذكور. ولكن يمكن فهم هذه العملية وتوقيتها بالنظر إلى المعركة السياسية الداخلية حول رئاسة بلدية إسطنبول. يحتاج أردوغان إلى كل صوت انتخابي للتمسك بهذه البلدية الأكبر والأهم. وهو بحاجة، قبل كل شيء، إلى أصوات ناخبي حليفه القومي المتشدد دولت بهجلي. العملية العسكرية، من هذا المنظور، هي نوع من «الإشارة إلى اليمين من أجل الانعطاف يساراً».
مجموع هذه التطورات والتطورات المحتملة يشير إلى إعادة تموضع جدية تستعد أنقرة للقيام بها، صبيحة حسم معركة رئاسة بلدية إسطنبول، بالابتعاد عن موسكو والاقتراب من واشنطن. أما صفقة الصواريخ الروسية، فمن المحتمل أن يتم حلها بطريقة ما ترضي واشنطن ولا تغضب روسيا.
القدس العربي