تنقسم النخب العربية السياسية على كل قضية من قضايا العالم العربي. يبرز بوضوح هذا الانقسام في قضية فلسطين وصفقة القرن، وحراك السودان والجزائر، والعلاقة مع الولايات المتحدة وسياسات ترامب، كما ويبرز بوضوح في حصار قطر وتداعياته، كما وتنقسم النخب السياسية العربية الحاكمة جذريا على طريقة التعامل مع إيران. لكن بنفس الوقت تكاد تتفق معظم النخب والأنظمة العربية على أن كل حراك اجتماعي وسياسي واحتجاجي يمثل حالة خطورة على النظام السياسي. بعض الأنظمة العربية تعيش خوفا مبالغا به من كل كلمة وتعبير وتجمع وحراك بينما بعض الأنظمة الأخرى أقل توترا في هذا الشأن.
من جهة أخرى نجد بأن القطاع الأكبر من الناس والقوى الشبابية في العالم العربي يعتبرون بأن مطالب التغيير والإصلاح في العالم العربي هي نتاج سلسلة من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المرتبطة بشعور عارم بين الناس «بالظلم» والتهميش والاستثناء. هذا التيار العربي، يمثل مدرسة جديدة، تكسب كل يوم أنصارا ومؤيدين جددا. بل ينطلق هذا التيار الجديد والمنطلق من أحداث وثورات 2011 بأن الحالة العربية الضعيفة الراهنة مرتبطة باحتكار السياسة وغياب التداول على السلطة ونقص الحريات وانتشار الفساد وهجمة القمع. إن الطموح بعالم عربي أفضل هو المحرك الأهم للحراكات العربية ولأصوات النقد والاحتجاج.
ومن أهم ما سيطر على العقل العربي لعقود طويلة كانت الفرضية التالية: على المواطن أن لا يتدخل في الشأن السياسي مقابل حصوله على المأكل والمشرب والمسكن والاستقرار والأمن. هذه الفرضية تعتمد على المواطن السلبي الذي يسلم كل حياته واحتياجاته للدولة، مفضلا ترك الدولة لوحدها تقوم بكل المهام والأعمال، مع الوقت تضعف الدولة وتنهار لأن مواطنها يعيش عزلة الصمت والاتكال والابتعاد، هكذا يصبح المواطن احد اضعف حلقات الدولة وذلك من خلال سلبيته وغيابه وقلة اكتراثه. لقد سقط الاتحاد السوفياتي وسقطت انظمة كثيرة في التاريخ بفضل هذه المعادلة.
وعندما ننظر لهذه الفرضية علي السطح سنجد أنها تتناقض مع طبيعة الإنسان بصفته كائنا سياسيا يبحث عن دور ومشاركة. فبينما من المصيب القول بان المواطن يبحث عن المأكل والمشرب والتعليم والأمن، لكن تسليم الحياة السياسية من قبل المواطن للنظام السياسي بلا رقابة وتداول وبلا مساءلة لا يضمن الأمن والاستقرار. بل يكتشف المزيد من المواطنين العرب بأن أمنهم مهدد ومستقبلهم ضائع وواقعهم مهزوز بفضل سيطرة أقلية صغيرة من الافراد على المقدرات والقرارات. إن فرضية عدم التدخل في الحياة السياسية وعدم مساءلة الطبقة الحاكمة تعني أن الاوطان ستسير نحو الهاوية بسبب سياسيين قادرين بفضل استفرادهم على ممارسة ظلم لا حدود له وأخذ أكثر القرارات خطورة ومغامرة بلا دراسة ومعرفة ومساءلة. بهذه الطريقة برز عند العرب نمط من السياسيين والقادة كالقذافي وصدام حسين والأسد وغيرهم.
إن فرضية عدم التدخل في الحياة السياسية وعدم مساءلة الطبقة الحاكمة تعني أن الاوطان ستسير نحو الهاوية بسبب سياسيين قادرين بفضل استفرادهم على ممارسة ظلم لا حدود له وأخذ أكثر القرارات خطورة ومغامرة بلا دراسة ومعرفة ومساءلة
لقد تغير المواطن العربي وتغير معه المواطن غير العربي المرتبط بالاقليم العربي كالأمازيغي والكردي والآشوري. لقد تغيرت نظرة كل مواطن لنفسه، بل نجد الناس تنتقل اليوم من حالة القبول بالظلم إلى الوعي بضرورة إزاحته، وتنتقل بنفس الوقت من الشعور بالعزلة وعدم الاكتراث ضمن عشيرة وقبيلة وفئة الى اكتشاف المشترك بين فئات المجتمع المختلفة. لقد بدأ المواطن في الإقليم العربي يعبر القبيلة والطائفة نحو الافق الوطني وذلك من اجل إصلاح حاله وحال بلاده، وهذا ما يلقى رفضا من قبل النظام السياسي الذي يفضل العزلة وعدم الاكتراث والانقسام الاجتماعي. لقد أصبح الشعب في العالم العربي مصدر مراقبة وتساؤل ومصدر احتجاج أحيانا صامت وأحيانا علني. هذا الاحتجاج الصامت قابل للتحول نحو الاحتجاج المفتوح والصاخب بين ليلة وضحاها كما رأينا في 2011 ثم في حراكات الجزائر والسودان.
لقد انكشف في السنوات القليلة الماضية وجه في العالم العربي لم تكن الناس تعرف بوجوده بفضل عزلتها عن السياسة والأحداث وانعزالها في جماعاتها. بل انكشف وجه للقمع وآخر للفساد، وثالث للتخبط، ورابع للتبعية المهينة للغرب، وخامس للتنسيق مع اسرائيل، وسادس لنهب الاقتصاد وسابع للظلم. انتبه الناس ان شيئا ما في النظام العربي يقتات على الكراهية. فالكراهية التي تحملها قطاعات من النخب تتجه في السنوات الماضية نحو التاريخ والإسلام والطبقات الشعبية وقيم الإصلاح والاصلاحيين، وتتجه ذات الكراهية نحو كل أنواع المعارضة والنقد بما فيها تلك الأكثر اعتدالا.
لقد تغيرت شعوب المنطقة العربية بفضل التعليم، وبفضل نشوء طبقات وسطى، وبسبب السفر والمعرفة بالعالم، وبسبب انتشار الفضائيات والتواصل الاجتماعي الذي عزز معارف الناس. تغير الناس بسبب مستويات الثقافة وقدرات الإدارة والتنظيم الحديثة، وبسبب لغة العصر التي دخلت كل بيت ومكان. لهذا لم يعد بالإمكان حجب الحقيقة، ولم تعد وجهة نظر الدولة أو الحكومة هي الوحيدة في الساحة. بل لم يعد النظام السياسي في أكثر الدول قمعية قادرا على نشر خطاب وبيان دون ان تقع ارتدادات نقدية ساخرة. لقد تغيرت الشعوب، وتغير الوضع.
في المرحلة الراهنة والقادمة لن يكون بالإمكان إيقاف زحف الثقافة العربية الجديدة التي تقوم على التساؤل والنقد وحرية التعبير التي يحملها الينا نمط جديد وشاب من المثقفين العرب. المجتمعات العربية لن تنهض بلا دور حاسم للمواطن في الحياة السياسة، وهذا لن يقع ذلك بلا مشروع للنهضة يأخذ البلدان العربية بعيدا عن دائرة التكلس والتردي الراهنة. إن فرضية «الشعب مصدر السلطات» لم تأت في التاريخ الإنساني من فراغ، فقد تطورت بشكل طبيعي من قلب الاستئثار والفساد والاحتكار. لازال الصراع في إقليم العالم العربي حول المواطن ومكانته وحول حراك المواطنين وحقوقهم وتطلعاتهم لبناء اوطانهم في بداياته. لقد قطعت هذه المعادلة الجديدة شوطا هاما منذ العام 2011.
القدس العربي