رغم أن مفهوم الإرهاب من المفاهيم المراوغة التي يصعب ضبطها علميا وإجرائيا، ويتعذر الاتفاق علي تعريف محدد لها، فإن القدر المتيقن فيه يظل هو استخدام العنف المسلح لتحقيق هدف سياسي لا يتعلق بالمقاومة الوطنية ضد احتلال أجنبي. فقد أصبح التمييز بين الإرهاب والمقاومة موضع اتفاق واسع، وإن لم يكن كاملا.
فالإرهاب إذن هو فعل سياسي يستخدم فيه السلاح. وكونه سياسيا، يعني تمييزه عن العنف المستخدم في مختلف أشكال الجريمة المنظمة. وهو بهذا المعني، يستخدم لأهداف سياسية متعددة ومختلفة. وقد عرف العالم الحديث أنواعا عدة من الإرهاب يمكن التمييز بين أهمها علي مستويين، أولهما: مستوي القائم بالإرهاب، أو من يمارس الفعل السياسي المسلح. فقد يكون الفاعل منظمات وحركات تستخدم العنف ضد السلطة، وقد تكون السلطة نفسها هي التي تمارس الإرهاب ضد معارضيها أو ضد شعب آخر تغزو قواتها أرضه أو تحتلها.
أما المستوي الثاني والأخير الذي يعنينا في هذه المقالة، فهو اتجاهات المنظمات أو الحركات التي تمارس العنف المسلح لأهداف سياسية، والتمييز بين ما يرتبط باليسار الأكثر تشددا، وما ينتمي إلي التيارات الإسلامية الأكثر تطرفا. ولما كان النوع الأول من المنظمات يرفع أعلاما حمرا، بينما يقاتل النوع الثاني منها تحت رايات سود، فقد استخدمنا هذين اللونين سبيلا للتمييز بينهما.
ورغم أن الإرهاب ذا الرايات السود هو السائد الآن، بعد أن كانت الأعلام الحمر عنوانه الرئيسي في منتصف القرن العشرين وحتي نهاية سبعينياته، فإن هذه الأعلام لم تطو تماما. ولكن انحسار المنظمات التي تحملها، مقابل توسع تلك التي ترفع الرايات السود، يجعل اهتمام الإعلام محدودا بالعمليات المسلحة القليلة التي ينفذها ما بقي من حركات متشددة ذات مرجعية يسارية.
ولذلك، لم يعرف معظم الناس في العالم شيئا عن آخر عملية لـ “الإرهاب الأحمر” حتي كتابة هذه المقالة، وهي التي قامت بها “الجبهة الثورية لتحرير الشعب” في اسطنبول في 31 مارس.2015 وكانت هذه عملية مزدوجة شملت احتجاز قاض (قتل إثر إصابته برصاصة أثناء محاولة قوات الأمن تحريره)، واقتحاما مسلحا لمقر حزب العدالة والتنمية الحاكم. وقد أنشئت هذه الجبهة في مطلع تسعينيات القرن الماضي، أي في مرحلة هبوط الأعلام الحمر، وصعود الرايات السود. وتوجد روايات مختلفة حول طبيعة علاقتها بالجناح المسلح لـ “جبهة التحرير الشعبي الثوري” التي أسست في منتصف السبعينيات بقيادة دورسون كاراناس بهدف (شن حرب ضد الهيمنة الإمبريالية علي تركيا، وتحقيق الاشتراكية).
ولا يزال مسلحو الأخيرة “جبهة التحرير الشعبي” علي عهدهم. ورغم التراجع الشديد في نشاطهم، فقد تمكنوا من تنفيذ هجوم انتحاري ضد السفارة الأمريكية في أنقرة في يناير 2013، وقالوا -في بيان إعلان المسئولية عن هذا الهجوم- إنهم يستهدفون (الولايات المتحدة التي تقتل شعوب العالم، وتذل الشعب التركي، وتجعل بلاده وكرا لمؤامراتها).
أولا- أصول العنف السياسي المسلح في العصر الحديث:
تعود فكرة العنف السياسي في أول تجلياتها الحديثة وأكثرها وضوحا إلي الثورة الفرنسية (1789) التي تعد أول ثورة شعبية، ومن ثم أُم هذا النوع من الثورات في التاريخ الحديث. وكانت ثورة تحررية استهدفت تحرير الشعب عموما، والبرجوازية الصاعدة خصوصا، من هيمنة السلطة الارستقراطية الظالمة، وقهرها، وغلقها للمجال العام السياسي والاقتصادي.
ولم تكن للثورة الفرنسية علي هذا النحو أية علاقة باليسار، أو أي اتجاه فكري أو سياسي آخر، وإن عُد اندلاعها تعبيرا عن أول انتصار للأفكار الليبرالية التحررية، والتنويرية، والتقدمية التي تراكمت منذ بداية القرن السابع عشر. ولكن بعض الممارسات العنيفة التي وقعت فيها، وتواصلت في موجاتها الكبيرة بعدها، خاصة في ثورتي 1848 و1871، وضعت أساسا لمفهوم العنف الثوري، الذي قام قطاع من اليسار المتشدد بتطويره نوعيا بعد ذلك.
فقد شهدت تلك الثورة عنفا بدأ محدودا ومعبرا عن تراكم طبيعي للغضب في أوساط قطاعات واسعة من الشعب، بعد أن ظهرت مقدماته في العام السابق عليها نتيجة التدهور الشديد في الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وحدوث صراعات ذات طابع طبقي في بعض المناطق الريفية. وقد استهدف العنف المواكب لاندلاع الثورة أكثر مراكز السلطة دلالة علي القهر، وفي مقدمتها سجن الباستيل، الأوسع شهرة في التاريخ. ولكن قدرا معتبرا من هذا العنف مارسه فلاحون معدمون، ومستأجرون للأرض، حين هاجموا قصور النبلاء (الإقطاعيين) في كثير من الأرياف، فيما سماه بعض المؤرخين “ثورة الفلاحين”. وقد حدث مثل هذا العنف التلقائي بدرجات متفاوتة في مختلف الثورات الشعبية التحررية التي توالت في العالم منذ ذلك الوقت.
ولكن ما حدث في الثورة الفرنسية، بعد ثلاث سنوات علي اندلاعها، كان نوعا مختلفا من العنف، اتسم بأنه منظم جزئيا لتحقيق هدف سياسي محدد. فعندما بلغ الصراع ذروته، وصعّدت القوي المضادة للثورة هجومها باستهدام خليط من القوة، والتحايل، والخداع، والدعم الإقليمي (من جانب الملكيات التي أقلقتها ارتدادات الثورة الفرنسية في بعض البلاد الأوروبية)، وأخذت الأوراق تختلط وتتداخل، لجأ بعض الثوار إلي مناشدة الشعب للدفاع عن الثورة والتسلح، حتي بالحراب.
غير أن الاتجاه الغالب في أوساط القوي الثورية ظل محافظا علي التزامه بالأطر الدستورية والقانونية، وسعيه إلي إقامة ملكية دستورية ديمقراطية، ورهانه علي أن تتراجع القوي المضادة للثورة، ويستوعب الملك لويس السادس عشر الواقع الجديد. ولكن فشل هذا الخيار، الذي أبقي العنف محصورا في نطاق أضيق، أدي إلي تغير ميزان القوي لمصلحة الجناح الثوري الأكثر تشددا، بدءا من أغسطس .1792 وترتب علي ذلك توسع في العنف الثوري الذي بلغ مبلغا استدعي استخدام كلمة الإرهاب (لم تكن تحمل دلالتها الراهنة) للتعبير عنه.
ويصعب تحديد متي بدأ استخدام هذا التعبير علي وجه الدقة. ولكن مؤرخ الثورة الفرنسية الأكبر، جول ميشليه، استخدمه كما لو أنه تعبير مألوف، عندما تحدث عن حقبة الإرهاب في هذه الثورة. ورغم أن هذا الإرهاب بدأ منظما برعاية قطاع من الثوار، فإنه سرعان ما انفلت، واستهدف عددا معتبرا من الثوار أنفسهم، وهذا هو أصل فكرة أن الثورة تأكل أبناءها. ولم يستطع “اليعاقبة” وضع حد لهذا الانفلات عندما أدركوا أخطاره. فكان أن انقلب العنف الثوري، وقد صار إرهابا، علي من شجعوه.
وكان هذا النوع من العنف أوسع نطاقا في ثورة 1870-1871 (الكومونة) التي اندلعت، إثر هزيمة قوات لويس بونابرت أمام بروسيا. فقد أدت تلك الهزيمة إلي إعلان الجمهورية الثالثة علي أنقاض الإمبراطورية المهزومة، وتسليح الشعب لمواجهة قوات بروسيا، واستيلاء أطياف عدة من اليسار علي السلطة، وإعلان تأسيس “الكومونة” في أجواء اختلط فيها الصراع الطبقي بالحرب الإقليمية.
وقد أعيد إنتاج “العنف الثوري” الذي يتجاوز الحدود المعتادة في معظم الثورات، ويعبر عن فائض القهر، والظلم، والكبت، حين يتحول إلي فائض غضب وانفلات، في عدد من الثورات، مثل الثورتين الرومانية (1990)، والليبية (2011) اللتين سيظل مشهدا قتل شاوشيسكو والقذافي بطريقة همجية معلمين بارزين من معالمهما. كما نجد مثله في حركة المقاومة الإيطالية ضد الفاشية عبر إعدام الدوتش (موسوليني) في أبريل 1945، وتعليق جثته أمام محطة وقود لأيام، حتي يتأكد الناس من مقتله.
وهكذا، شهدت الثورة الفرنسية أول ظهور للإرهاب بمعناه الحديث، وبداية استخدام هذا المصطلح للدلالة علي الفعل السياسي العنيف. ولا تزال ملابسات تلك المرحلة في الثورة الفرنسية تثير جدلا دار بعض أهم جوانبه في أوساط اليسار عبر مناظرات سبقت اتجاه قطاع محدود منه إلي اعتماد العنف المسلح طريقا لنضاله ضد الإمبريالية والرأسمالية.
وفي ظل الجدل الذي احتدم في أوساط اليسار حول شرعية العنف الثوري من عدمه، حدث خلاف علي تفسير ما ورد في مقدمة فردريك إنجلز لكتاب كارل ماركس (الحرب الأهلية في فرنسا) الذي يتضمن النداءات التي كتبها ماركس باسم (المجلس العام لجمعية الشغيلة الأممية حول الحرب الأهلية في فرنسا). ولأهمية هذا الجزء من مقدمة إنجلز، نورد منه هذه السطور: (لقد أضحت باريس في السنوات الخمسين الأخيرة، بفضل التطور الذي حدث منذ ثورة 1789، في وضع جعل من المتعذر أن تنشب فيها أية ثورة دون أن ترتدي الطابع البروليتاري. وعليه، فإن البروليتاريا التي كانت تدفع دماءها ثمن النصر تقدمت بمطالبها بعد النصر. والعمال الذين قدموا هذه المطالب كانوا ومازالوا يحملون السلاح. ولذلك، كان تجريد العمال من السلاح هو أول المقتضيات بالنسبة للبرجوازية الحاكمة).
ورغم أن إنجلز لم يقصد هنا ما ذهب إليه أديب ثوري فرنسي كبير، شارك في ثورة 1871 وما رافقها من حرب مسلحة، وهو جول فاليس، عندما كتب بمرارة (لم أكن أريد أن تتلطخ ثورتنا بالدماء. ولكن ما العمل؟، والثورة، كل ثورة، لا يمكنها أن تخلو من الصدام المسلح)، فقد فسر كلامه ذاك من جانب قطاع محدود من اليسار المتشدد بطريقة تبرر العنف الثوري المسلح، وتجعله الطريق إلي التغيير.
غير أن هذه المسألة ظلت خلافية طوال الوقت. ويمكن الإشارة -علي سبيل المثال- إلي بعض ما تضمنته المناظرات المشهورة بين فلاديمير لينين، قائد الثورة البلشفية عام 1917، والزعيم اليساري الألماني، كارل كاوتسكي، الذي أعاد تفسير الماركسية بمنهج وضع الأساس للتيار الاشتراكي الديمقراطي في أول نسخة له.
وشملت تلك المناظرات قضية تصفية معارضي الثورة البلشفية، وبعض من اشتبه في أنهم يرفضونها، الأمر الذي وجده أنصارها طبيعيا، ليس فقط اقتداء بما حدث في الثورة الفرنسية، ولكن أيضا بالنظر إلي الصدامات المسلحة الاجتماعية والسياسية في روسيا في الفترة بين 1905 (الثورة الروسية الأولي) و1907، ثم خلال الثورة الثانية (البلشفية)، والحرب الأهلية التي أعقبتها واستمرت حتي عام .1922 ولكن كاوتسكي رفض تلك الممارسات، وحذر من إضفاء طابع إرهابي علي الشيوعية. ومما كتبه في هذا المجال مثلا: (لقد بدأ قادة البروليتاريا يلجئون إلي إجراءات متطرفة. وهذه إجراءات دموية .. إنها إرهاب).
ولكن الفرق كبير بين هذا النوع من الإرهاب الذي أدانه كاوتسكي، واعترض عليه ماركسيون آخرون رفضوا السياسات العنيفة لـ “سلطة البروليتاريا” السوفيتية، وذلك الذي تبناه اليسار الأكثر تشددا بعد ذلك في منتصف القرن العشرين. فقد كان عنف السلطة البلشفية ضد معارضيها أقرب إلي الإرهاب السلطوي الذي يطلق عليه مجازا “إرهاب الدولة”، لأن ممارساته اعتمدت في جانب منها علي أجهزة هذه السلطة الناشئة حينئذ وأدواتها من ناحية، بينما كان بعضه الآخر جزءا من حرب أهلية امتدت لسنوات من الناحية الأخري.
ثانيا- اليسار المتشدد .. و”الإرهاب الأحمر”:
عرف العالم إرهابا منظما بنوعيه، المجتمعي والسلطوي، قبل الربع الثاني من القرن العشرين. ولكنه كان منظما بمعني مرتب، أو مخطط، أو ممنهج، وليس بالمعني التنظيمي الذي يرتبط بمنظمة، أو حركة، أو أية مجموعة منظمة في إطار معين.
فلم يظهر العنف السياسي المسلح في إطار تنظيمات أو منظمات إلا مع اتجاه قطاع محدود من اليسار ذي الخلفية الماركسية إلي هذا العنف، اعتقادا في أن طريق النضال السلمي مسدود أو مغلق (وهو ما يجمعه مع تنظيمات العنف ذات الخلفية الدينية). وكان لتجربة الحرب الأهلية الإسبانية، التي دفع الجنرال فرانشيسكو فرانكو معارضيه إليها في ثلاثينيات القرن الماضي، أثر كبير في ذلك التطور، عندما عبر شبان يساريون من بلاد أوروبية عدة الحدود للالتحاق بهؤلاء المعارضين الذين كانوا خليطا من الجمهوريين، وأنصار الحرية، ودعاة العدل الاجتماعي. وكانت قصص صمودهم ملهمة بفتح آفاق مستقبل محتجز، وكسر المدار المغلق للحاضر المنكفئ علي ماضيه الجامد.
ولا يدرك حجم الإلهام الذي قدمته تلك التجربة إلا من يعود إلي بعض أشعار الشاعر الإسباني الكبير جارسيا لوركا، وبعض أعمال الأديبين العظيمين: الأمريكي أرنست همنجواي، والفرنسي أندريه مالرو، عن الحرب الإسبانية.وبشيء من الاختزال، ربما يجوز دمج ركائز “الإرهاب الأحمر” في ركيزتين اثنتين.
فأما الركيزة الأولي، فهي أنه لما كانت الرأسمالية، والإمبريالية التي بدا، قبل عولمة الاقتصاد، أنها أعلي مراحلها، مؤسستين علي الاستغلال، والنهب، والظلم، والقهر، وتملكان من القوة ما لا يتيح هزيمتهما عبر العمل السلمي، “فلا بديل عن اللجوء إلي العنف في مواجهتهما لإنقاذ العالم من شرورهما”.
أما الركيزة الثانية، فهي أنه لما كانت الرأسمالية والإمبريالية تمثلان حاجزا تاريخيا أمام حقوق الطبقات الفقيرة، والشعوب المقهورة، والعدالة المفقودة، فهما غير أخلاقيتين بطابعهما، الأمر الذي يجيز استخدام أية وسيلة مهما تكن لتخليص العالم من شرورهما.
وليس هذا إلا تلخيصا لا يخلو من تبسيط لتنظير عميق ومعقد بدأ بعد تحول قطاع من اليسار بالفعل باتجاه العنف المسلح. فكان التنظير لـ “الإرهاب الأحمر” إذن لاحقا علي بدايته، ومزودا إياه في الوقت نفسه بمدد يستند إليه. ويكفي ذلك لاستنتاج أن هذا النوع من العنف ارتبط بظروف سياسية، واقتصادية، واجتماعية، قبل أن يجد في تأويل بعض النصوص الماركسية التأسيسية، ونصوص أخري مستندة إلي هذا التأويل، ما كان يبحث عنه للتعبير عن نفسه.
ومع ذلك، فقد أثير جدل حول ما إذا كانت النصوص المشار إليها هي مصدره، أم الظروف الموضوعية التي أطلقته، وجعلت بداياته سابقة عليها. وهذا جدل أثير مثله بعد ذلك، ولا يزال مثارا، بشأن العنف الديني المسلح الذي سنعود إليه بعد قليل.
غير أن الجدل حول المصدر الأول للعنف اليساري المسلح كان أقل مما هو دائر حتي الآن بشأن العنف الديني المسلح، ربما لاختلاف طبيعة النصوص في كل منهما. فالطابع الديني للنصوص، التي يكسو بها العنف الديني المسلح أفعاله، يضفي عليها، فيما يبدو، أهمية أكبر في هذا الجدل، مقارنة بالنصوص ذات المرجعية الماركسية، وغيرها من الأدبيات اليسارية.
وتقدم قصة تشي جيفارا، أبرز أيقونات العنف اليساري المسلح ورمزه الأسطوري، دليلا عمليا علي أسبقية الظروف علي النصوص في هذا النوع من العنف، وربما في كل نوع منه.
تخبرنا قصة جيفارا (1928-1967)، الذي نشأ في أسرة ذات أصول أيرلندية – إسبانية تعيش في الأرجنتين، بأنه كان منذ صباه متمردا من النوع الذي يجوز تسميته “ثائرا بلا قضية”، أي ذلك النوع من الشباب ذوي التكوين المتمرد الذي لا يرضي بسهولة عن الأوضاع المحيطة به، ويحلم دائما بتغييرها.
ويتميز هذا النوع من الشباب بالشروع مبكرا في اقتحام المجال العام عبر نشاطات تبدأ غالبا في المدرسة والجامعة. وظهرت ميوله اليسارية التلقائية عندما تعاطف بشدة مع الجمهوريين، الذين خاضوا حربا أهلية ضد الملكية والرأسمالية في إسبانيا، وهو بعد صبي صغير لم يتجاوز العاشرة إلا بقليل. كما كان عداؤه الفطري التلقائي للنازية في أوائل العقد الثاني من عمره مؤشرا علي ميول تقدمية غذاها إدراكه بعد ذلك الآثار الاقتصادية والاجتماعية الفادحة لهيمنة الولايات المتحدة علي أمريكا اللاتينية التي كانت حكوماتها التابعة حينئذ تسمي “جمهوريات الموز”.
وأسهم تخصص جيفارا في الطب، دراسة وعملا، في توسع معرفته بالبؤس الذي عم منطقة شعر بانتماء عميق إليها، ومسئولية كبيرة عنها (تزوج جيفارا الأرجنتيني سيدة من بيرو، وحصل أطفاله علي جنسية المكسيك، وأسهم في النضال السلمي في جواتيمالا، ثم شارك في قيادة النضال الثوري المسلح في كوبا، وقتل وهو يقاتل في بوليفيا). فقد رأي بأم العين ما فعله النهب والاستغلال في الفلاحين المعدمين. وازداد وعيه اليساري الذي بدأ فطريا، ثم تطور عبر الاحتكاك بالواقع، خلال جولة شملت معظم بلاد أمريكا اللاتينية علي متن دراجة بخارية. والأرجح أن جيفارا لم يعرف الأفكار الماركسية قبل أن يلتقي طبيبا آخر من بيرو، كان قد تأثر بها، هو هوجو بيسكي.
ويري بعض من عرفوه عن قرب أنه ربما تأثر بـ “الدون كيشوتية” بما ترمز إليه من مثالية، وفروسية، وحلم، وجنون بمقدار ما تأثر بالماركسية، خاصة في نظرته إلي مفهوم الثورة، بوصفها عملا إراديا، أي ذاتيا بالأساس.
وعندما اتجه إلي الماركسية، كانت أمريكا اللاتينية تعج بثورات عدة، بعضها عفوي عام، والبعض الآخر يساري النزعة. وهو لم يستوعب، علي الأرجح، التنظير اليساري للعنف المسلح إلا عندما فاضت مشاعره ألما لما رآه في الواقع، وسماه “الأخطبوطات الرأسمالية”. وعندئذ، جاء انضمامه إلي كاسترو، الذي كان نضاله السلمي قد اصطدم بالقمع الذي مارسه نظام فولجنسيو باتيستا في كوبا، في لحظة أيقن فيها أن التغيير السلمي ليس ممكنا.
وأدي ما فهمه جيفارا من انتصار الثورة الكوبية إلي تثبيت هذا اليقين الذي دفعه لأن يمضي حياته كلها مقاتلا ضد الإمبريالية والرأسمالية، منتقلا من كوبا إلي الكونغو في إفريقيا، ومنها إلي أمريكا اللاتينية مرة أخري، حيث خاض معركته الأخيرة في بوليفيا. فقد قبض عليه في مطلع أكتوبر 1967، وأعدم بدون محاكمة، بينما هرب بعض رفاقه عبر حدود شيلي، حيث التقاهم أنصار طبيب آخر كان يقود حركة يسارية صاعدة، وهو سلفادور الليندي. وقد دعمت تجربة الليندي -التي أحبطت فور وصوله إلي السلطة عبر الانتخابات عام 1973- إيمان قطاع من اليسار بالعنف المسلح.
وهكذا، انتقل جيفارا من تمرد غاضب كان ممكنا أن يعتمد النضال السلمي، لو أن طريقه كان مفتوحا إلي العنف اليساري المسلح، حين تبين أن هذا الطريق مغلق. ولم يقتنع جيفارا بهذا العنف فقط، بل صار أحد منظريه عبر كتابه “حرب العصابات”، الصادر عام .1960 ويكتسب هذا الكتاب الفقير نسبيا أهمية من كاتبه أكثر من محتواه. فقد ثبت فشل المنهج الذي يضع الإرادة فوق العوامل الموضوعية، ويدعو إلي (خوض القتال قبل نضوج شروطه الموضوعية اعتمادا علي بؤرة صلبة). وكان إصرار جيفارا علي هذا المنهج سبب هزيمته في بوليفيا، حيث أصر علي خوض القتال، رغم رفض الحزب الشيوعي، وتحذيره من مغامرة فاشلة، واعتمد علي مقاتلين من بلاد أخري لا يعرفون حتي اللغة المحلية، فعجزوا عن التواصل مع الفلاحين الفقراء الذين ذهبوا لتحريرهم من الظلم والاستعباد.
ويعني ذلك أن جيفارا لم يكن مطلعا علي التجارب التي اعتمد فيها المقاتلون علي حاضنة مجتمعية، ونظر لها ماوتسي تونج بعد ذلك عبر فكرة “السمك والماء”، التي تتلخص في أن مقاتلي حرب العصابات الثورية يشبهون السمك الذي لا يستطيع العيش والسباحة إلا في قلب الماء، أي في مناطق تحتضنهم. كما لم يحسن جيفارا قراءة التجربة الكوبية نفسها، رغم أنه كان في قلبها، ولم يقدر أهمية دور القوي المجتمعية التي كان تمردها هو العامل الذي حسم الصراع وأتاح لـ “حركة 26 يوليو” انتصارا لم يكن ممكنا بدون هذا الدور.
ولذلك، لا يرقي كتاب جيفارا، رغم انتشاره الواسع، إلي مستوي أعمال أخري في هذا المجال، منها -علي سبيل المثال لا الحصر- كتاب “الثورة في الثورة” لريجيسي دوبريه، وكتاب “حرب المستضعفين” لروبرت فابر، وكتاب “حرب العصابات في المدن” لكارلوس ماريجيلا، الذي يجوز أن نعده مقابلا لكتاب جيفارا الذي يركز علي هذه الحرب في الريف، ومكملا له في الوقت نفسه.
ولم تكن أمريكا اللاتينية هي الساحة الوحيدة للعنف اليساري المسلح الذي انتشر في كثير من مناطق العالم بين خمسينيات القرن العشرين وسبعينياته، ثم تراجع، وهبطت أعلامه الحمر بالتوازي مع ارتفاع الرايات السود للعنف الديني المسلح.ولكن أمريكا اللاتينية كانت الساحة الرئيسية التي انتشر فيها العنف اليساري المسلح أكثر من غيرها، وأحدث تأثيرا كبيرا فيها، يصعب بدونه فهم المد اليساري السياسي الذي شهدته في السنوات الأخيرة.
ومما يبدو مدهشا خارج أمريكا اللاتينية أن اثنين من رؤساء بلادها الحاليين كانا مرتبطين بمنظمات العنف اليساري المسلح في شبابهما، وهما دانييل أورتيجا، الذي ارتبط بمنظمة “ساندنيستا” التي تحولت إلي العمل السياسي السلمي في نيكاراجوا، وديلما روسيف التي شاركت في دعم بعض حركات العنف اليساري المسلح في البرازيل في بداية حياتها. وهذا بخلاف حالة كوبا التي وصل فيديل كاسترو إلي السلطة فيها عام 1959، عبر مزيج من العنف اليساري المسلح، والنضال السياسي المدني، حيث كان أثر الإضراب العام الشامل في نهاية 1958 في حسم الصراع أكبر من العمل المسلح. كما كان أخوه راءول، الرئيس الحالي، أحد أبرز قادة “حركة 26 يوليو” الثورية المسلحة التي لم تفصح عن انتمائها اليساري إلا بعد سنوات علي إسقاط نظام باتيستا. كما أن رئيس أوروجواي السابق، خوزيه موخيكا، الذي غادر السلطة منذ شهور، بعد إنجاز اقتصادي وديمقراطي كبير، وأداء شخصي مبهر في تواضعه وارتباطه بالفقراء، كان أحد قادة حركة “توباماروس” التي خاضت حرب عصابات طويلة، ثم أوقفت القتال مع بداية التحول الديمقراطي في التسعينيات.
ومثلما تعد “توباماروس” إحدي أهم منظمات العنف اليساري المسلح في العالم، فإنه ينظر إلي تجربتها بوصفها أنصع تعبير عن هذا النوع من العنف الملتزم بعدم استهداف مدنيين. وقد كتب الباحث الفرنسي آلان لايروس كتابا ممتعا عنها، ترجم إلي لغات عدة تحت عنوان (توباماروس من السلاح إلي صناديق الاقتراع)، صدرت طبعته الأولي عام 2009 عن دار روشيه.ولا تقل أهمية حركة “ساندنيستا” التي حملت عند تأسيسها عام 1961 اسم “أوجستو ساندينو” الذي قاد النضال ضد التدخل الأمريكي في نيكاراجوا في ثلاثينيات القرن الماضي.
ومن المنظمات التي ذاع صيتها عالميا في هذا المجال أيضا منظمة “الطريق المضئ” في بيرو، وهي الوحيدة، بين منظمات العنف اليساري المسلح في أمريكا اللاتينية، التي لا تزال تحمل السلاح، ويحتمي الباقون من مقاتليها بجبال الأنديز.
وكثيرة، كانت منظمات العنف اليساري المسلح التي لم يبق منها إلا تاريخها في مناطق أخري في العالم. وكان أكثرها شهرة منظمات أوروبية وآسيوية لم تكتف بالأعلام الحمر، بل اختارت لنفسها أسماء من اللون نفسه، مثل “الألوية الحمراء” التي أقضت مضاجع الحكومات الإيطالية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، واغتالت رئيس إحداها (ألدو مورو) عام 1978، و”الجيش الأحمر الألماني” الذي اشتهر أكثر باسم جماعة “بادر ماينهوف”. وحذت بعض المنظمات الآسيوية حذوهما، وأكثرها شهرة الجيش الأحمر الياباني “نيهون سيكيجون” الذي نشط في الخارج، وضرب أهدافا إسرائيلية دعما لقضية فلسطين، أكثر مما كان له وجود في الداخل.
ثالثا- “السلفية الجهادية” .. و”الإرهاب الأسود”:
بخلاف العنف اليساري المسلح، حيث يتفوق الاتجاه الذي يربطه بالظروف الموضوعية علي الرأي الذي يري أن الفكر هو مصدره الأول، يحتدم الجدل في حالة العنف الديني المسلح بين اتجاهين في فهم نشأته، وتفسير سلوكه. أحد هذين الاتجاهين يربطه بالبيئة السياسية – المجتمعية، وظروفها الموضوعية، بينما يعيده ثانيهما وآخرهما إلي التطرف الديني الناتج عن نصوص فقهية معينة.
يري الاتجاه الأول أن الظروف التي يتجه فيها شبان إلي “الإرهاب الأسود” هي التي تدفعهم إلي البحث عن عقيدة حافزة لهذا التمرد، وميسرة للتعبئة، وأنهم يلجئون إلي نصوص متشددة يغلفون بما تتضمنه من فقه وفتوي تمردهم، أو يكسونه بها. أما الاتجاه الثاني، فيعتقد أن هذه النصوص هي المسئولة عن العنف الديني المسلح.
ويفصل الاتجاه الأول بين تمرد الشباب الذي يتجه إلي العنف المسلح، وتيارات الإسلام السياسي المعتدل، بينما يربط الاتجاه الثاني بينهما، ويري أن “الإرهاب الأسود” إنما هو امتداد لهذه التيارات، أو خارج من عباءتها.ويذهب الاتجاه الأول إلي أن “الإرهاب الأسود” خرج من ظلم نظم الحكم، وعذاب السجون، بينما يعتقد الاتجاه الثاني أنه خرج من بطون كتب تراثية متشددة.
وإذا كان الاتجاه الثاني يكتفي بالسخرية من حب مقاتلي “الإرهاب الأسود” للموت سعيا للقاء “حور السماء”، فإن الاتجاه الأول يهتم بالبحث فيما يدفعهم إلي كل هذا الكره للأرض والحنين للسماء. ويري هذا الاتجاه (الأول) أنه حين يشتد الظلم في الأرض، ويبلغ مبلغا لا يمكن تحمله، أو عندما تسودها أوضاع يصعب قبولها، أو التكيف معها، فإن التعلق يزداد بما يقع خارجها، وتصبح السماء قبلة، حتي لو خلت من الحور.
ويتميز الاتجاه الأول بإدراكه أن الشهادة التي يقدم عليها مسلمون ليست مقصورة علي الإسلام، حيث وضعتها الأديان كلها في مكان رفيع، وأن المسيحية هي التي طورت اللاهوت الأبرز في هذا المجال الذي لا تُحصي قصصه في تاريخ اضطهاد الإمبراطورية الرومانية للمسيحيين، بل إن كلمة “شهيد” مستمدة أولا من قصة تلامذة المسيح، بوصفهم شهودا عليه، ثم باتت تعني من قتلهم الاضطهاد الروماني، مثل القديسين بطرس وبولس اللذين تحمل كثير من الكنائس اسميهما.
وفي كل الأحوال، أخذ من حملوا الرايات السود، ومارسوا عنفهم تحتها مفاهيم، مثل: الجهاد، والحاكمية، والولاء والبراء، وتطبيق الشريعة، واستعادة الخلافة، وغيرها، من خلال أكثر تفسيراتها الفقهية غلوا، وأعادوا تأويلها بما ينسجم مع إيمانهم بالعنف المسلح، عندما خرجوا علي الحكومات (وخرج بعضهم علي المجتمعات أيضا) رافعين راياتهم السود، ومعلنين فشل التيارات الإسلامية المعتدلة، ومكفرين قادتها في معظم الأحيان.
ولم تكن فكرة بناء تنظيمات تمارس العنف المسلح قد طُرحت علي هذا النحو من قبل، حتي من جانب حزب التحرير الإسلامي الذي حمل لواء الدعوة إلي الخلافة منذ تأسيسه عام 1953، رغم أنه أقام هذه الدعوة علي تكفير الحكومات.
وكانت إحدي الأفكار التي وردت في ثنايا بعض كتابات سيد قطب، خاصة في كتاب “معالم في الطريق”، عاملا مساعدا في بلورة فكرة التنظيمات المسلحة بعد إعدامه، وهي فكرة “الطليعة المؤمنة”. وهي لا تختلف في جوهرها عن فكرة “الطليعة المتقدمة”، أو “طليعة البروليتاريا” لدي بعض التيارات الماركسية، والتي أعاد إسلاميون متشددون صوغها لتصبح “الطليعة المقاتلة”.
وقد بدأت مقدمات هذا الميل إلي العنف الديني المسلح في مصر، ومنها إلي بلاد أخري في المنطقة وخارجها، في منتصف ستينيات القرن الماضي، عندما شرعت مجموعات من الشباب في السعي إلي تأسيس تنظيمات “جهادية”. وتنطوي قصة أيمن الظواهري علي مغزي مهم في هذا المجال. فقد اتجه الصبي الرقيق، سليل عائلتين عريقتين (الظواهري وعزام)، والمتفوق في دراسته، إلي التطرف، ومنه إلي الإرهاب “الجهاد”، مبكرا، حين عمقت هزيمة 1967 الغضب الذي كان قد بدأ يملأ جوانحه بسبب طريقة تعامل السلطة مع معارضيها.
لم يكن قد تجاوز عامه السادس عشر حين صار فاعلا في إحدي الخلايا الشبابية السرية “التكفيرية” التي ظهرت للمرة الأولي في ذلك الوقت. وشرح الظواهري في كتابه “فرسان تحت راية النبي” قصة هذا التحول، وأوضح كيف أثر إعدام سيد قطب فيه أكثر مما تأثر بكتاباته. فقد أضفي إعدامه علي كلماته معاني لم تكتسبها كثير من كلمات غيره.
ويتضح من رواية الظواهري كيف امتزجت آثار “انتصار” السلطة علي معارضيها وسحقهم من ناحية، وهزيمتها وانسحاقها أمام العدو من الناحية الأخري، فصدمت شبانا غاضبين، ودفعتهم إلي التمرد والبحث عن “طريق للنجاة”. وكان هذا هو الطريق الذي أفضي إلي “الإرهاب الأسود”. وشهدت مصر أولي عمليات هذا الإرهاب، بدءا من عام 1974 (عملية الفنية العسكرية)، وتلتها السعودية، حيث وقعت عملية اقتحام الحرم المكي في 20 نوفمبر 1979 بقيادة جهيمان العتيبي، ومحمد عبدالله القحطاني.
وتضمنت تلك البداية رافدين، رفع أحدهما شعار الجهاد ضد السلطات الكافرة الظالمة، بينما دفع الآخر بكفر المجتمعات، ودعا إلي الهجرة منها استعدادا للهجرة إليها مجددا لـ “فتحها وإعادتها إلي الإسلام”.
وإذا كانت نقطة البداية في “الإرهاب الأسود” علي هذا النحو هي الموقف تجاه سلطات كافرة وظالمة، أي ترتبط بعنصرين يمكن أن نعدهما -لغرض التحليل- متغيرين (الكفر والظلم)، فربما يكون البحث عن المتغير المستقل فيهما مساعدا في الإجابة علي السؤال الخاص بمسئولية كل من الظروف الموضوعية، والنصوص الفقهية في ظهور هذا الإرهاب.
وبالعودة إلي ملابسات مرحلة النشأة في منتصف ستينيات القرن الماضي، نجد ما قد يعد مؤشرا علي أن الشعور بالظلم سبق الحكم بالكفر في تلك المرحلة. وإذا صح ذلك، فإن الظلم يصبح هو “المتغير المستقل”، أو الدافع الأول إلي تمرد دفع إلي البحث عن راية براقة يقف تحتها، ويستظل بها. فكانت النصوص الفقهية الأكثر انغلاقا وتشددا هي تلك الراية.
وربما تكون حالة شكري مصطفي، الذي تولي قيادة أول تنظيم تكفيري، بعد أميره الأول علي إسماعيل، وهو “جماعة المسلمين” التي عرفت إعلاميا باسم “التكفير والهجرة”، أكثر دلالة في هذا المجال من حالة أيمن الظواهري. فعندما تساءل مصطفي، الذي تختلف الروايات حول سبب القبض عليه في منتصف الستينيات، عما إذا كان من يعذبونه وغيره من المعتقلين بطريقة وحشية يعدون مسلمين حقا أم لا، كان لسان حاله يقول -دون أن يقصد- إن ظلم السلطة قد يدفع البعض إلي التمرد عليها، بل تكفيرها. فقد دفعه الظلم الذي وقع عليه إلي البحث عن تفسير، فلم يسعفه عقله المحدود البسيط، الذي أغلقه نظام تعليم متخلف، إلا بتفسير ساذج، هو أن هؤلاء الظالمين لا يمكن أن يكونوا مسلمين. وربما كان مثل هذا السؤال يدور في أذهان أعداد بدأت قليلة من الشبان، الذين جمعت بينهم علاقات صداقة ومعرفة في مجموعات مختلفة، عندما خلصوا إلي ما سبقه إليهم أعداد أكبر في مناطق أخري من العالم، ولكنهم حملوا مرجعية مختلفة، هي أن طريق العمل السلمي مغلق، وأن العنف المسلح هو البديل.
وأيا كان الأمر في هذا المجال، فقد انتشر الرافد الجهادي للعنف الديني المسلح، بينما ظل نظيره التكفيري (الذي يكفر آحاد الناس وليس فقط الحكام وسلطاتهم وأجهزتهم) محدودا.واعتمد هذا الرافد علي قراءة انتقائية في جانب محدود من التراث الفقهي، لأنه لم يكن في حاجة إلي أكثر من توجهات عامة، وعناوين صادمة، وشعارات براقة تؤدي الوظيفة الفكرية، أو النظرية، أو “الفتووية” للعنف، علي النحو الذي تضمنه أول نص يعبر عنه، كتبه عبد السلام فرج في نهاية السبعينيات تحت عنوان “الفريضة الغائبة”.
ولم تكن السلفية التقليدية بالنسبة لـ “الإرهاب الأسود” إلا ساحة مفتوحة للتجنيد منها. فرغم أن توجهاتها تنسجم مع ما كان يبحث عنه من اتجهوا صوب هذا الإرهاب، فإنها تمنع الخروج علي الحاكم، وتضع قواعد مختلفة للجهاد، وتحرم التعدي علي الدم. وتعد قصة أسامة بن لادن “نموذجية” في هذا المجال، فقد نشأ سلفيا تقليديا، ودأب علي استخدام أمواله لدعم الدعوة، وظل كذلك لسنوات، حتي بعد أن ذهب إلي أفغانستان لدعم المجاهدين. فكان دوره في البداية تمويليا وإنمائيا، إلي أن التقي أيمن الظواهري هناك في منتصف عام 1986، ونشأت بينهما علاقة إنسانية عميقة.
واستطاع الظواهري إقناع بن لادن بالتوجه الجهادي، فتحول من داعية سلفي إلي زعيم جهادي أخذ علي عاتقه إعادة تنظيم المجاهدين، بعد انتهاء الحرب الأفغانية، الأمر الذي أسفر عن إعلان “الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين” في فبراير.1998 ووضعت هذه الجبهة الأساس لتنظيم “قاعدة الجهاد” الذي ظل في صدارة قوي “الإرهاب الأسود”، إلي أن سحب “تنظيم الدولة الإسلامية” المعروف إعلاميا باختصار اسمه السابق “داعش” البساط من تحته.
وهكذا، لم تكن هناك علاقة بين التوجه الجهادي المؤسس للعنف الديني المسلح، والسلفية التقليدية. غير أنه عندما اتُهم التيار الجهادي الذي يمارس الإرهاب بالسطحية، وتغييب العلم الشرعي، وتغليب الحركة علي الفكر، انتقي من السلفية التقليدية ما لا يتعارض مع جموحه العنيف، وألزم أتباعه بدراسة بعض الأدبيات ليتيقن له أن يسمي نفسه “السلفية الجهادية”، ويرد علي منتقديه، قبل أن يتجه تنظيم “الدولة الإسلامية” إلي تهميش مسألة الفكر، بعد أن حقق من القوة والانتشار ما يجعل نقده لأسباب تتعلق بهذه المسألة غير ذي بال.
رابعا- العالم بين إرهابين:
بالعودة إلي ملابسات نشأة العنف المسلح، اليساري والديني، لا نجد اختلافا كبيرا بينهما، إذا أخذنا بالاتجاه الذي يعيد “الإرهاب الأسود” إلي الظروف الموضوعية، السياسية والمجتمعية، ويعدها العامل الأول وراء تمرد شبان وجدوا في نصوص فقهية متشددة الراية التي يقاتلون تحتها. فما “الإرهابان” علي هذا النحو إلا تمرد علي أوضاع قائمة يبحث عن راية يرفعها، ويقاتل تحتها، سواء كانت حمراء، أو سوداء.
وفي هذه الحالة، تصبح ظروف النشأة هي وحدها ما يجمع “الإرهابين”، اللذين يختلفان في كل ما عدا ذلك تقريبا، أو معظمه. وفضلا عن المرجعيات التي تفصل بينهما، والأهداف التي يسعي كل منهما إليها، فهما يختلفان حتي في فلسفة العنف الذي يشتركان في استخدامه، خاصة العمليات الانتحارية.
فهذه العمليات ليست من اختراع “الإرهاب الأسود”، إذ كانت تنظيمات يسارية متشددة هي الأسبق في استخدامها ضمن منظومة أدواتها لمواجهة الإمبريالية، والسلطات التي تعبر عن المصالح البرجوازية، وترتبط بعلاقات تبعية مع النظام الرأسمالي العالمي. كما لجأت بعض حركات التحرر الوطني ذات التوجهات اليسارية وغيرها إلي هذا النوع من العمليات ضد قوات الاحتلال.
ورغم تشابه معظم أساليب العمليات الانتحارية وأشكالها في ممارسات بعض تنظيمات اليسار المتشدد، الذي حمل راية تغيير العالم في الربع الثالث من القرن الماضي، وتنظيمات العنف الديني التي تتصدر المشهد منذ أواخر سبعينياته، فما أبعدها المسافة بين مفهوم هذه العمليات وفلسفتها هنا وهناك.
فالعمل الانتحاري لدي تنظيمات العنف الديني يرتبط بفكرة الخلاص المطلق الذي يقوم علي اعتقاد في أن “التمكين للإسلام” هو السبيل إلي الخير من ناحية، وخلاص “المجاهد الاستشهادي” من آثام الدنيا، وانتقاله إلي أعظم مراتب الفردوس الأعلي من ناحية أخري.
أما اليسار المتشدد، فقد نظر إلي العمل الانتحاري من خلال فكرة التحرر، حيث يصبح هذا العمل سبيلا إلي تحرير البشرية من القهر، والظلم، والاستغلال، وطريقا إلي حياة أفضل لن ينعم بها المنتحر الذي لا ينتظر مقابلا شخصيا لأعظم تضحية يقدمها إنسان، وهي التضحية بحياته. فقد اعتقد يساريون لجئوا إلي الطريق الخطأ لتحقيق أحلام مسحوقة بأن في الحياة ما يستحق الموت من أجله، وأن عالما أكثر عدالة يمكن أن يولد علي هذه الأرض بعد موتهم.
وبينما يمكن أن نعيد أصل مفهوم الانتحار لدي تنظيمات العنف الديني إلي الدلالة الرمزية لقصص بعض الأنبياء الذين فضلوا الموت، أو كانوا مستعدين له، علي التراجع عن رسالاتهم، نستطيع إرجاع أساس مفهوم الانتحار لدي اليسار المتشدد إلي الاحتفاء بالموت في ساحة المعركة في اليونان القديمة، حيث أطلق عليه “الموت الجميل”، أو “الموت النبيل”. وليست قصة سقراط بعيدة عن هذا المعني. فقد كان في إمكانه أن يتفادي حكم الإعدام عندما أتاحت له المحكمة فرصة التراجع عن أفكاره التي حوكم بسببها، ولكنه اختار الموت، وكأنه يقبل علي الانتحار اعتقادا في أن موته سيدعم أفكاره، ويفتح الطريق أمام تحرير العقل، بوصفه الركيزة الأولي لتحرر البشرية من مختلف أشكال الطغيان. وهكذا، تبدو المسافة الفكرية السياسية بين “الإرهاب الأحمر” و”الإرهاب الأسود” شاسعة، رغم تشابه معظم أساليبهما.
والحال أنه بينما أخذ العنف اليساري المسلح في التراجع، كان العنف الديني المسلح يتوسع لأسباب، نكتفي منها هنا باثنين، لأنها تتطلب معالجة مستقلة. السبب الأول هو صعوبة إيجاد بيئات حاضنة للأعلام الحمر في العالم الإسلامي الذي انتشر فيه العنف الديني، حيث تتمتع الرايات السود بأفضلية ترتبط بأنها تنسب إلي الإسلام الذي يصعب علي أي أفكار يسارية أو حداثية أن تنافسه في منطقة لم تعرف من الحداثة إلا بعض قشورها. والسبب الثاني والأخير هو الاستعصاء الديمقراطي في منطقتنا، بخلاف المناطق التي انتشر فيها العنف اليساري المسلح. إذ أدت التحولات الديمقراطية في أهمها (أمريكا اللاتينية) إلي إلقاء الكثير من منظماته السلاح، واندماجها في العملية السياسية، ومشاركتها في الانتخابات، وتحول كثير من قادتها وأعضائها إلي سياسيين فاعلين، وأعضاء في البرلمانات، ووزراء، بل رؤساء لثلاثة من بلاد هذه المنطقة.
ورغم أن “الربيع العربي” حمل ترياقا مضادا لسم العنف الديني المسلح، عبر فتح طريق التغيير السلمي، من أجل الحرية، والكرامة، والعدالة، فإن اجتثاث هذا السم يتطلب وقتا لم يتيسر في البلاد التي تمكنت قوي الثورة المضادة من محاصرة “الربيع” فيها. كما وجدت هذه القوي في العنف الديني المسلح ما تريده في محاولتها اقتلاع بذور الزهور التي جاء بها “الربيع” قبل أن تُزهر.
ومع ذلك، تظل رايات الأمل في الحرية، والكرامة، والعدالة، التي ارتفعت في سماء عدد من البلدان العربية عام 2011، هي الكفيلة حين ترفرف مجددا بتغيير البيئة السياسية – المجتمعية المنتجة للظلم، والقهر، والجهل، والتعصب، والتطرف، ومن ثم إنزال الرايات السود التي يجد حاملوها في ظلمات هذه البيئة ما يعينهم علي التمدد والتوسع.