مأزق مصر مع «الإخوان» مستمر من زمن عبد الناصر

مأزق مصر مع «الإخوان» مستمر من زمن عبد الناصر

n00445028-b

بعد عامين من 30 حزيران (يونيو) 2013، تبدو مصر الدولة والمجتمع، عاجزة عن تجاوز حالة الصراع والاستقطاب الذي تفجر بعد ثورة يناير المتعثرة، ولعل التفجير الإرهابي أول من أمس الذي راح ضحيته النائب العام هشام بركات، هو أحدث تجليات هذا الاستقطاب وأكثرها مأسوية، فالإرهاب يستخدم تكنولوجيا جديدة وينقل عملياته الى قلب القاهرة، مستهدفاً أحد أهم رموز القضاء المصري، في محاولة ساذجة لتحويل الصراع السياسي إلى حرب ثأرية.

الدلالة الأهم أن الحادث يؤكد إرادة طرفي الصراع وقدرتهما على مواصلة حربهما حتى قضاء أحدهما على الآخر. ولا شك في أن الدولة مدعومةً بأغلبية شعبية كبيرة، أقرب إلى كسب الحرب، لكنها للأسف حرب لن تنتهي قريباً، كما أن كلفتها المادية والأخلاقية والسياسية هائلة. والإشكالية أن الطرف الأقرب الى الهزيمة قد يخسر معاركه مع الدولة وقوى الأمن وأغلبية المصريين كما خسرها في عصور الملكية وعبد الناصر والسادات ومبارك، لكنه في الأغلب سيحافظ على وجوده الفكري والسياسي، نتيجة أن الطرف الأقرب الى الانتصار لا يقدم مشروعاً فكرياً وسياسياً بديلاً، ويعتمد على الحل الأمني ويهمّش الحل السياسي ولا يتعامل معه بالجدية المطلوبة. وهنا يستحضر المصريون تجارب رؤساء مصر السابقين في تعاملهم مع جماعة «الإخوان» وجماعات الإسلام السياسي التي ظهرت من عباءة «الإخوان» وتنافست معهم من خلال تبني أفكار وخطابات أكثر تشدداً وممارسات إرهابية. ويطالب كثيرون بتكرار النهج الناصري المتشدد في ملاحقة وقمع «الإخوان» وأنصارهم، وفي الوقت نفسه تحقيق معدلات تنمية مُرْضية وتوفير الدولة الخدمات الأساسية وتحقيق عدالة اجتماعية، ما حرم «الإخوان» وغيرهم من القوى السياسية، من استغلال معاناة الفقراء للحصول على حاضنة اجتماعية تدعم وجودهم وخطابهم السياسي.

تعامل عبد الناصر مع «الإخوان» لم يقتصر على ملاحقتهم وقمعهم لكنه استوعب بعض رموز الجماعة ومنحهم مناصب في الدولة، أي أنه جمع بين الجزرة والعصا، وإن كانت الغلبة للأخيرة، وشهدت سجون ومعتقلات عبد الناصر تجاوزات لحقوق الإنسان ربما كانت من بين أسباب ظهور أفكار التكفير والجهاد، كما لم ينجح الحكم بإعدام سيد قطب في القضاء على أفكاره، لذلك فإن السؤال الذي يطرح نفسه: هل نجح النهج الناصري في القضاء على فكر «الإخوان» وجماعات التطرف الإسلاموي؟ أعتقد أن هزيمة المشروع الناصري في 1967 ثم موت عبد الناصر المفاجئ عام 1970، فتحا الطريق سريعاً أمام عودة «الإخوان»، خاصة بعد أن عقد السادات تحالفاً مع الجماعة أفرج بموجبه عن معتقليها وسمح بعودتهم الى العمل الدعوي والسياسي مقابل دعمهم إياه في مواجهة اليسار والناصريين. وقناعتي أن حسابات السادات السياسية لم تكن صحيحة، لأن خطر «الإخوان» كان أكبر من كل الأخطار والتهديدات الداخلية التي كانت تواجه السادات، بدليل صدامهم مع السادات، وقيامه باعتقال قياداتهم وكل القوى السياسية التي عارضت اتفاقية السلام مع إسرائيل، ثم اغتياله على يد تنظيم متطرف خرج غالبية عناصره من عباءة «الإخوان».

تجربة مبارك في التعامل مع «الإخوان» كانت أكثر تعقيداً، نظراً لاختلاف الظروف الداخلية والسياق الدولي والإقليمي، من هنا اختلف نهج مبارك عن عبد الناصر والسادات، حيث لجأ إلى احتواء جزئي لـ «الإخوان» وتوظيفهم لتبرير مشروعية نظامه السياسي، وللجم توسع الجماعات المتطرفة، كـ «الجهاد» و «الجماعة الإسلامية»، وفي الوقت نفسه حرص مبارك على توجيه ضربات أمنية محدودة وبشكل دوري للقيادات الوسيطة في الجماعة، لنفي التحالف بينه وبين «الإخوان» ولإرباك الجماعة وجمع معلومات عنها بشكل مستمر. وعلى رغم تناقضات هذا النهج ومستوياته المتعددة، فقد استخدمه مبارك لتخويف الغرب والمسيحيين (في الداخل) من «الإخوان» كبديل لحكمه وهو ما عرف بفزاعة «الإخوان» والإسلاميين. ومن الجائز القول إن حكم «الإخوان» أثبت صدقية مخاطرهم على مدنية الدولة المصرية، وعلى الأمن القومي لعديد من الدول العربية، لكن بقيت عدة عواصم غربية مؤثرة تراهن على «الإخوان» كبديل معتدل في مواجهة المخاطر الحقيقية التي يجسدها تنظيما «القاعدة» و «داعش».

في تجربة الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي في التعامل مع «الإخوان» والإسلاميين، تبدو الأوضاع أكثر تعقيداً، لأنه من المستحيل نقل أو تكرار تجارب رؤساء مصر السابقين، نظراً لاختلاف السياق التاريخي والظروف الدولية والإقليمية، إضافة إلى تغير موازين القوى بين «الإخوان» والدولة، فقد تحول «الإخوان» من مجرد جماعة دينية وسياسية تسعى للإصلاح إلى حركة اجتماعية لها حضور دولي وتحالفات إقليمية، والأهم لها جذور وهياكل في كل أنحاء مصر وبشكل يفوق كل التقديرات. في المقابل، الدولة المصرية اليوم هي في أضعف مراحل قوتها مقارنة بأوضاعها في عهد عبدالناصر والسادات، حيث ورث السيسي تركة من المشكلات والتحديات من دون أن يطرح برنامجاً سياسياً أو أن يكون لديه مشروع أو رؤية متكاملة، ربما لأن المعارك التي خاضها ضد «الإخوان» وتهديدات الإرهاب في سيناء وعلى حدود مصر، أجبرته على العمل قبل التفكير أو البحث عن رؤية، فالسيسي رجل عملي بحكم تكوينه العسكري وثقافته، لذلك انشغل باستعادة الأمن والاستقرار وحلّ أهم المشكلات الموروثة عن حكم «الإخوان» ونظام مبارك، خاصة تدهور الخدمات والانقطاع في الكهرباء.

ويمكن القول إن شرعية السيسي وجمهوريته تأسست على العداء لـ «الإخوان» ومواجهة الإرهاب، أي أنه على عكس كل رؤساء مصر الذين وصلوا الى الحكم ثم دخلوا في صدامات مع «الإخوان»، ولكنه لم يتعايش أو يتوافق مع «الإخوان» ثم اصطدم معهم، وإنما كانت مواجهته لـ «الإخوان» وبدعم شعبي هائل في 30 يونيو 2013 هي الطريق لتأسيس شعبيته ثم شرعيته في الحكم، وبالتالي فإن الصراع ونفي الآخر ما زال يشكل منهج تعامل السيسي مع «الإخوان» وجماعات الإرهاب الإسلامي، ومع ذلك ثمة حقيقتان على درجة كبيرة من الأهمية بشأن تعامل السيسي مع «الإخوان»: الأولى أن أحكام السجن والإعدام التي صدرت ضد قياداتهم كانت من محاكم عادية، ولم تلجأ الحكومة الى محكمات عسكرية أو استثنائية، ومع ذلك لم ينفذ أي حكم بالإعدام على قيادات أو أعضاء من الجماعة. والحقيقة الثانية: أن السيسي أعلن في عدة مناسبات عن رغبته في التعامل مع أعضاء من جماعة «الإخوان» كمواطنين لهم الحقوق والواجبات كافة، بما فيها العمل السياسي، شرط عدم تورطهم في أعمال عنف وإرهاب.

الحقيقتان مثار تأويلات متعارضة، فالبعض يتخذهما دليلاً على التردد وعدم الحسم والبطء في تنفيذ العدالة، ما يشجع «الإخوان» على الاستمرار في العنف والإرهاب، ويبرهن هؤلاء بتشدد عبد الناصر في تنفيذ تسعة أحكام بالإعدام فقط صدرت عامي 1954 و1965 عن محاكم استثنائية ونجحت في القضاء على تنظيم «الإخوان» في الخمسينات والستينات.

في المقابل، هناك تأويلات ترى أن تأخير تنفيذ عشرات أحكام الإعدام وتلميحات السيسي عن التعايش مع أفراد جماعة «الإخوان»، تفتح المجال لتسويات سياسية، أو ربما صفقات ترعاها دول عربية. وبغض النظر عن التأويلات السابقة، فمن المؤكد أن النظام لا يمتلك اليوم رؤية أو تصوراً سياسياً محدداً للتعامل مع «الإخوان» بعيداً من الحل الأمني، والملاحظ أن الخطاب الإعلامي السائد يركز على «اجتثاث الإخوان» إذا جاز التعبير، ويرفض أفكار المصالحة أو استيعاب الجماعة أو أفراد منشقين عنها ضمن النظام السياسي. غير أن خطاب العداء الأبدي والصراع للقضاء على «كل الإخوان» من دون تمييز، باعتبارهم أشراراً، يبتعد من المنطق والواقع، ومن ثم لن يؤدي إلى نتائج محمودة، لا سيما أن النظام الحالي لا يطرح مشروعاً فكرياً أو سياسياً بديلاً، ولا يتبنى رؤية وبرامج واضحة لتحقيق أهداف ثورة يناير، كما أن تحالف 30 يونيو الذي أطاح «الإخوان» انتهى سريعاً، ودخلت القوى التي كانت تشكله في صراعات مكشوفة بينها، بددت طاقة الحكم الجديد لبناء تحالفات وشراكات وطنية واسعة يمكن أن تتبنى مشروعاً تنموياً يقوم على التعدد والديموقراطية واحترام الدستور واستيعاب كل الفرقاء ومشاركتهم.

لقد تغلبت خلال العامين الأخيرين الاعتبارات الأمنية والإجراءات الخاصة بإنقاذ الاقتصاد على اعتبارات السياسة والحاجة الماسة لمشروع تنموي ديموقراطي مدني حقيقي ينقذ مصر والمنطقة من مخاطر التطرف وتوظيف الدين في السياسة.

محمد شومان

صحيفة الحياة