الباحذة شذى خليل*
بعد تراجع الاشتراكية، استفرد النموذج الاقتصادي بنظام النيولبيرالية، وذلك بقوة الداعمين للفكرة رغم مروره بانتكاسات ، كان أهمها أزمة عام 2008، عندما غرقت كبرى المصارف في أزمتها، ما اضطر الدولة المركزية الى التدخل السريع، وإنقاد المصارف من الانهيار. وأزمة 2020 الصحية التي أدت إلى إضعاف النيو ليبرالية، ولا أستبعد أن عمليات التسهيل الكمي التي أفرطت أمريكا فيه، أمر مقصود بهدف إحداث خلل اقتصادي كبير مثل التضخم داخل أمريكا، وبعد ذلك تستخدم رفع سعر الفائدة بشكل مفرط لاستعادة الأموال من جميع الدول بطريقة مبررة للعالم.
النيولبيرالية في العراق:
بعد 2003 بدأت التوجهات الاقتصادية بالتوجه نحو الانفتاح حيث ان مشروع الاصلاح الاقتصادي يركز على الهيكلة وتغيير التوجه الاقتصادي، لكن دون وضع حدود لهذا التوجه او لنوع المشاريع التي تضمن تحقيق النمو، او مؤشرات تدل ان التوجه بهذا التغيير هو توجه نحو الامام للتنمية الاقتصادية الحديثة ، مثل التنمية الزراعية والصناعية .
وما تم فهمه على مستوى إدارة دول بعد تاريخ الانفتاح الاقتصادي عام 2003 يدور حديث انصار الاصلاح عن الهيكلة، الاصلاح المالي، الاصلاح الضريبي، تصفية القطاع العام، انهاء المسؤولية الاجتماعية للدولة، اي ترديد لسياسات مطروحة وجرى اختبارها في العديد من البلدان وليست مشاريع تنمية أو تطوير. وبالتالي فإن طرح الاقتصاديين الحكوميين هو ترويجي وتبريري وليس منطقا اقتصاديا علمياً.
أي ليس كل ما يجري في العالم يمكن تطبيقه على الاقتصاد العراقي على الرغم من ثروات البلد الهائلة ، الا ان المجتمع الاقتصادي والنظريات التي تطبق في أمريكا مثلا او دولة ناشئة مثل الصين لا يمكن تطبيقها في العراق ، ولأسباب كثيرة منها البنى التحتية للصناعات ، الانغلاق الاقتصادي الذي كان يعيشه البلاد قبل هذا التاريخ أزمات الحصار ، ضعف النظام التكنلوجي ، حتى على مستوى المواطن لا توجد ثقافة الانفتاح وكيفية توجهها لمصلحة البلد والمواطن فكانت الفجوة كبيرة مما أدى الى الانعكاس على الاقتصاد بشكل سلبي ، من اهدار للثروة وزادت نسبة الفقر والحرمان والطبقية في البلد ، رغم انفاق المليارات والتفريط بالثروة العامة.
حيث ان نموذج النيوليبرالية لم ينجح في تحقيق ما زعمت أنه صلاح للاقتصاد والمجتمع، لا من حيث الازدهار الاقتصادي، ولا من حيث تقليص عدد الفقراء، ولا من حيث الحفاظ على معدلات التضخم. فشل السوق في تصحيح أوضاعه بنفسه، وقد احتاجت رموز رأس المال (البنوك) لتدخل الدولة لإنقادهم من الانهيار، وهذا الانقاد هو بالضرورة لصالح رأس المال، وليس المجتمع الذي أنهكه انخفاض الأجور في مقابل تعاظم الاستهلاك بواسطة هذه السياسة.
السياسة الاقتصادية في العراق، ماهي الا انعكاس ، لشروط المؤسسات المالية، صندوق النقد والبنك الدولي، ووضعها في قالب النظرية، وليس هذا فحسب بل تصويرها على انها منجز سينقذ الاقتصاد ويطوره، وهنا يبدأ استخدام الاقتصاد كوسيلة للخداع وليس كعلم للتحليل والاستنتاج.
فإن خفض الانفاق الحكومي، وتوجيهه وجهة غير محسوبة النتائج وغير قابلة للبرهان على نجاحها، ليست مجرد مقامرة بحياة الملايين قابلة للربح او الخسارة، بل ان جميع الدلائل والخبرات العالمية للتجارب المماثلة تدل على فشل هذه السياسة ونتائجها الكارثية، والمصير المظلم الذي ستتسبب به فلو اخذنا على سبيل المثال كيف تدار المشاريع ولماذا فشلت ، لكانت الحجة الأكبر هي الحرب ضد الإرهاب ام عوائق التنمية الاقتصادية والإصلاح ونمو المشاريع في البلد ،
ولو اخذنا امثلة وتجارب من الواقع نلاحظ وبدقة ؛ ان الدول التي تخوض حروبا طويلة، غالبا، تطور خلال الحرب ماكنتها الصناعية سواء الحربية او الصناعات الاخرى . ويصبح الطلب على الايدي العاملة اكبر بسبب انشغال قسم واسع من الشباب في المهام القتالية، وخلال الحرب العالمية الثانية قامت دول متأخرة صناعيا مثل روسيا او الاتحاد السوفيتي السابق، بتطوير أسلحة ثقيلة استطاعت ان توازن بها ماكنة الحرب الألمانية وتتفوق عليها. كما ان الدول المتحاربة قد طورت اسلحة أخرى سواء أسلحة تقليدية أو طيران متقدم أو صواريخ أو نظم اتصالات متطورة، المهم ان ضرورات الحرب طورت أسس الصناعات الثقيلة في العديد من تلك البلدان.
وحتى العراق خلال الحرب الطويلة مع ايران، فإن انتاج الاعتدة وبعض الاسلحة كان يجري محليا. اليوم نلاحظ ان العراق وبعد حرب طويلة مع القاعدة ثم مع داعش، لم يباشر حتى بتشغيل مصانع الاعتدة الخفيفة، التي كانت تنتج انتاجا يغطي قسما واسعا من متطلبات الحرب ويوفر العملات العالمية.
ان جانبا كبيرا جدا من الانفاق العسكري كان بالإمكان تغطيته من الانتاج المحلي، وعليه فإ التذرع بتكاليف الحرب على الارهاب هو موضوع قابل للنقاش وليس حجة نهائية تبرر اختفاء المليارات، ويجب في الوقت نفسه كشف ودراسة كون ادامة الحرب هي جزء من سياسة عالمية، تستهدف استنزاف ثروات المجتمع وفتح اسواق السلاح، وهي سياسة لا يمكن فرض تأثيرها مباشرة على العراق بدون مقاومة، ولكن وجود مستفيدين من الحرب وشركاء في تجارة الحروب، هو ما يدعم سياسة الحروب والنزاعات.
هنا يثبت من خلال التحليل ان السبب في فشل تطبيق الأنظمة الاقتصادية العالمية النيو ليبرالية على الاقتصاد العراقي هو عدم تأهيله وتوفير الأرض الخصبة لإعادة التخطيط والتوجه الصحيح لإدارة الاقتصاد العراقي. السبب الحقيقي هو الفساد والحكومة عاجزة عن الوقوف بوجه الفساد، وان
عددا كبيرا من المسؤولين الحكوميين متورط بالفساد، وان الفساد مستشر في العديد من الاجهزة، كما أن الحكومة غير مؤهلة لاصدار تشريعات أو بناء سياسات بوجه الفساد، لان ما يعرف بالفساد اصبح آلية ونظام للاستحواذ على المال العام، والهيمنة على الادارات وصنع القرار، وهنا لا تتعلق المسألة بمجموعة مخالفين فاسدين تواجههم الحكومة.
ان الفساد، أي الاستيلاء والسيطرة على المال العام أو المصالح العامة وتوجيهها نحو منتفعين وبطرق خارجة عن القانون وخارجة عن الاصول، هي عملية عالمية وغير مقتصرة على العراق. ولكن هذا لا يعني تبرئة المسؤولين الحكوميين والاجهزة الحكومية في العراق. ان كل العالم الرأسمالي يشهد وجود فساد مستشر في العديد من المؤسسات وان بدرجات متفاوتة.
نصل الى ملخص ما وصل الية الاقتصاد العراقي وفشل ادارته هو فشل الخروج من الأزمات الاقتصادية المتوالية التي تصيب الفقراء والطبقة الوسطى، من دون أن تمس الأغنياء، وذلك عبر سياسة الهروب من النقاش الجدي حول النظرية لسجلات سطحية وهامشية، بحيث ينجو رأس المال بنفسه، في كل مرة، من المساءلة الأخلاقية والإدانة السياسية.
وحدة الدراسات الاقتصادية مكتب شمال امريكا
مركز الراوبط للبحوث والدراسات الاستراتيجية