بعد 6 سنوات على آخر تفجير إرهابي هزَّ ميدان تقسيم، عادت الأضواء لتتسلط على الميدان السياحي الواقع في قلب إسطنبول، مع علو صوت انفجار جديد عصر الأحد الفائت، الذي أودى بحياة ستة أشخاص وخلف عشرات المصابين، فقد ساهمت أجهزة التصوير الثابتة والهواتف المتنقلة في توثيق شرائط فيديو عديدة للحظة وقوع انفجار، ورصدت الكاميرات ردود فعل الكثيرين من الذين تصادف تواجدهم في تلك المنطقة الأكثر ازدحاما في العاصمة الاقتصادية لتركيا وواحدة من أشهر المدن في تاريخ الحضارات الإنسانية.
وبعد تحقيق أسفر عن اعتقال المتهمة بتنفيذ الهجوم ونشر الأمن التركي مشاهد لعملية إلقاء القبض على منفذة التفجير، حيث أوضحت وكالة “الأناضول” أن وحدات مديرية أمن إسطنبول ألقت القبض على المنفذة عقب رصدها لكاميرات المراقبة في المدينة وعقب ساعات من التحري والمراقبة حيث كانت تختبئ في منزل في منطقة كوتشوك تشكميجه، وهي منطقة تبعد عن ميدان تقسيم قرابة ساعة كاملة بالسيارة، وأظهرت مقاطع فيديو المعتقلة وقد ضبطت بحوزتها مبالغ نقدية بالدولار والليرة التركية وقطع ذهبية وملابس منها تلك التي ظهرت فيها بكاميرات المراقبة في منطقة الانفجار.
وقالت وكالة الأناضول إن المعتقلة (23 عاماً)، تحمل الجنسية السورية وقد انتقلت إلى الأراضي التركية من منطقة عفرين التابعة لمحافظة حلب، شمالي سوريا. ورغم عدم إعلان جهة مسؤوليتها عن الانفجار، وهو أمر يكاد يكون متوقع لانتفاء أي صفة إنسانية على هذا العمل المشين.
ومن جانبها اتهمت الحكومة التركية حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردية -المرتبطة به- بالوقوف وراء التفجير، مؤكدة أن المرأة المشتبه في تنفيذها العملية تلقت تدريباتها في منطقة عين العرب (كوباني) على يد أعضاء “الوحدات” التي تتزعم ما تسمى “قوات سوريا الديمقراطية” المسيطرة على مناطق واسعة شمال وشمال شرقي سوريا. وفقد وصفه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في أول تعليق له بأنه “إرهابي” جرى تنفيذه بقنبلة، مؤكدا أن الإرهاب لن يصل إلى مبتغاه”. بينما أعلن حزب العمال الكردستاني -الذي تضعه تركيا ودول أخرى على لوائح الإرهاب- عدم صلته بالتفجير، لكنه في الوقت نفسه اتهم السلطات التركية باللجوء إلى هذه الأساليب بسبب فشلها في التصدي لما سماه “النضال الكردي”، مكررا حديث بعض المعارضين الأتراك عن سيناريو “مسرحية”.
أدى التفجير ، إلى حالة استقطاب جديدة ضاعفت من أجواء الاحتقان التي تخيم على الأجواء السياسية التركية بين الحكومة والأحزاب لا سيما مع اقتراب الانتخابات الرئاسية والنيابية. وأصبحت رواية الحكومة وتحميلها حزب العمال الكردستاني وذراعه السورية «وحدات حماية الشعب» الكردية في جانب، وفي جانب آخر حملة التشكيك الواسعة فيها التي تراوحت بين اتهام الحكومة بتنفيذ «مسرحية» التفجير الإرهابي، وتوظيفه في الدعاية الانتخابية.
على صعيد آخر، أعاد التفجير فتح ملف الخلاف التركي – الأميركي حول دعم واشنطن لميليشيا “وحدات حماية الشعب” الكردية بحجة اعتبارها حليفاً في الحرب على «تنظيم داعش» الإرهابي. وحقاً، حمل إردوغان، ضمناً، خلال مؤتمر صحافي على هامش قمة «مجموعة العشرين» في إندونيسيا، يوم الأربعاء، الولايات المتحدة جانبا من المسؤولية عن «التفجير الإرهابي وعن كل نقطة دم أريقت فيه» بسبب علاقتها مع «الوحدات» الكردية ودعمها لها.
وكان لافتاً أيضا أن وزير الداخلية سليمان صويلو رفض رسالة تعزية نشرتها السفارة الأميركية في أنقرة، قائلاً: «لا نقبل التعزية المقدمة من السفارة الأميركية… نعرف من يدعم الإرهاب في شمالي سوريا، ونعرف الرسالة التي أرادوا إيصالها لتركيا من خلال هذا الهجوم… إن مَن يدعم المنظمات الإرهابية في شمال سوريا هو مَن نفذ هجوم إسطنبول». وبدوره، قال رئيس دائرة الاتصال برئاسة الجمهورية التركية، فخر الدين ألطون، إنه ينبغي لمن يريد صداقة تركيا أن يقطع الدعم المباشر وغير المباشر للإرهاب. وتابع ألطون في تغريدة عبر «تويتر» يوم الاثنين «على المجتمع الدولي معرفة أن الهجمات الإرهابية التي تستهدف المدنيين إنما هي نتيجة دعم بعض الدول للإرهاب».
لاشك أن مخططي لهذا العمل الإرهابي قد اختارا المكان والزمان بعناية، فمكانيا يستقطب ميدان تقسيم وشارع الاستقلال السياح من مختلف بلاد العالم، والأماكن السياحية هدف ثمين للجماعات الإرهابية في الدول التي يعتمد جزء أساسي من دخلها على السياحة. ويشهد الميدان اكتظاظا في معظم الوقت؛ مما يعني فرصة لإيقاع أكبر عدد من الضحايا، ومساحة أوسع لنشر الرعب. ويوصف الميدان بأنه “قلب إسطنبول النابض”؛ لكثرة ما يضم من أسواق تجذب المواطنين والسياح، وأماكن تاريخية قديمة ومنشآت حديثة تجذب الباحثين عن التنزه. وتضم المنطقة بعثات دبلوماسية لعدة دول، منها هولندا وروسيا، وفنادق تستضيف أهم المؤتمرات الدولية، والمناطق التي تضم مصالح أجنبية على أجندة الجماعات الإرهابية دائما. وللمنطقة قيمة تراثية، فمنذ قرون مضت تحظى بمكانة كبيرة، وكانت في القديم منطقة توزيع (تقسيم) المياه على أحياء ومناطق المدينة، ومن هنا جاء الاسم، وكان قربها ثكنة عسكرية عثمانية، وحاليا بها نصب تذكاري للجمهورية التركية وعيد التحرير والنصر. وللميدان له رمزية سياسية، فهو أشهر موقع يشهد مظاهرات لشتى ألوان الطيف السياسي.
ولطالما شهدت إسطنبول في سنوات سابقة العديد من الأعمال الإرهابية، لما لها من سمعة دولية وأهمية اقتصادية بالنسبة لتركيا، إذ تعد العاصمة الاقتصادية للبلاد،التي تقع في قارتي آسيا وأوروبا وتمتد على مساحة 1830 كليلو مترا مربعاً ويزيد سكانها وزوارها نهاراً عن 20 مليون نسمة.
فقد استقبلت اسطنبول نحو 12 مليون سائح أجنبي حتى نهاية الربع الثالث من العام الجاري، ويعوّل خلال الربع الأخير من هذا العام على استقبال المدينة أكثر من 3 ملايين سائح، نظراً لخصوصية المدينة بالسياحة الشتوية والعلاجية واحتوائها على مراكز الطبابة الكبرى وزراعة الشعر.
كما تستحوذ إسطنبول على أهم المشروعات في تركيا، ففيها المطار الثالث الذي زادت تكلفته الإجمالية عن 30 مليار دولار وفيها قناة إسطنبول التي تزيد تكاليفها عن 10 مليار دولار، إضافة إلى استثمارات ضخمة ومراكز اقتصادية متخصصة وسوق استهلاكية كبيرة. كما أنها توفر فرص عمل لنحو 20% من الأيدي العاملة في تركيا، وتسهم بحوالي 22% من الناتج القومي، ويؤخذ منها 40% من مجموع الضرائب في الدولة، وتنتج 55% من الصادرات التركية.
أما زمانيّا، يأتي هذا العمل الإرهابي في الوقت الذي تشهد فيه تركيا من الناحية الاقتصاديًا تراجع الليرة التركية المستمر أمام الدولار الأمريكي، وارتفاع كبير بنسب التضخم في الاقتصاد التركي، وسياسيًا أتى تفجير أسطنبول قبل 7 أشهر من الانتخابات الرئاسية والنيابية التي ستشهدها تركيا في 18 حزيران/ يونيو المقبل. وهو ما استدعى نسج «سيناريوهات» وتوجيه اتهامات للحكومة، ليس فقط بالضعف الأمني، بل ربما بالوقوف وراء التفجير من أجل إشاعة أجواء الخوف التي شهدتها الدولة قبل الانتخابات المبكرة في أول تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، وهذه أجريت بعد أقل من 5 أشهر من انتخابات 7 يونيو من العام ذاته، وكانت أول انتخابات يخفق حزب العدالة والتنمية الحاكم بالحصول على الغالبية التي تمكنه من تشكيل الحكومة منفرداً. وأيضا، شهدت العاصمة أنقرة يوم 10 تشرين الأول/ أكتوبر تفجيراً مزدوجاً استهدف «مسيرة الديمقراطية» التي كان دعا إليها حزب الشعوب الديمقراطية المؤيد للأكراد ومنظمات مدنية عدة. ويومذاك قال رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو إن «أصواتنا في ازدياد»، وهو ما أثار الشكوك حول الجهة التي تقف وراء العملية الإرهابية، التي نسبت إلى «تنظيم داعش» الإرهابي.
وربما لا تقف تداعيات التفجير الإرهابي وارتداداته عند البعد الأمني أو التراشق السياسي بين الحكومة والمعارضة في إطار سعي كل طرف للتفوق على الآخر في الانتخابات المقبلة. وهم يعتبرون أن ثمة أبعاداً أخرى تمتد إلى السياسة الخارجية وإلى عمليات تركيا في شمالي سوريا والعراق ضد ميليشيا «الوحدات» الكردية ومقاتلي حزب العمال الكردستاني.
لذلك ولتخفيف الضغط علىها، وكرد سريع على التفجير الإرهابي، قد تنفذ الحكومة التركية عملية تعتمد على القوة الجوية شمالي سوريا تستهدف مواقع “قوات سوريا الديمقراطية” وشمالي العراق تستهدف مواقع حزب العمال الكردستاني.
كان ولا يزال الإرهاب في تركيا ذو الارتباطات الدولية يشكل إحدى مصادر القلق الاجتماعي- الذي لا يستهان به- في تركيا، وقد يحدث تأثيرات بالغة في المشهد التركي برمته. إذا استمر في تهديد أمن الدولة التركية.
معمر فيصل خولي
وحدة الدراسات التركية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية