ربّ زلة لسان تكشف الكثير من الحقائق المخفية وتفضح الأكاذيب المعلنة وتبرهن أيضاً على قصور التفكير وحماقة القرار ومخاطر اللعب بالنار، خاصة في الشؤون الحساسة التي يمكن أن تؤثر على مسارات السياسة الدولية وموازين العلاقات بين الأمم. تلك كانت حالة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وهو يتحدث عن الأمر التنفيذي الذي وقّعه لتوّه وفرض بموجبه عقوبات جديدة وشخصية على عدد من كبار المسؤولين الإيرانيين المدنيين والعسكريين، وعلى رأسهم آية الله الخميني… الذي توفي قبل 30 سنة!
وبالطبع كان ترامب يقصد المرشد الأعلى علي خامنئي فكان أن خانه التعبير أو استبقه جهله المعروف أو تغلبت على لسانه زلة لعلها كشفت، أول ما كشفت، أن العقوبات الأخيرة ليست رمزية وشكلية وغير قابلة للتطبيق أصلاً فحسب، بل الأهم أنها كذلك قرارات حمقاء ومجانية تصبّ المزيد من الزيت الحارق على نار تزداد اشتعالاً منذ أسابيع، في منطقة نفطية لا تحتمل المزيد من الشرر. إذْ سيان في نهاية المطاف أن يفرض ترامب العقوبات على زعيم إيراني يرقد في قبره منذ ثلاثة عقود، أو على زعيم حيّ يرزق ولكن الخزانة الأمريكية أعجز من أن تمس ممتلكاته، سواء كانت مجرد حسينية كما يؤكد أنصاره أو ملايين الدولارات كما يتهمه خصومه.
لكن هذه العقوبات الجديدة كفيلة بإضافة المزيد من أسباب التأزيم التي لا يفتقر إليها مشهد شديد الاحتقان أصلاً بين الولايات المتحدة وإيران، وقد تجاوز التراشق اللفظي، وانسحاب واشنطن من الاتفاقية الدولية حول الصناعة النووية، وفرض سلال متلاحقة من العقوبات على الاقتصاد الإيراني خاصة النفط باعتباره شريانه الحيوي، فوصل التأزم قبل أيام إلى الاحتكاك العسكري وإسقاط طائرة استطلاع مسيّرة أمريكية كانت تتجسس فوق مياه إيران الإقليمية.
ذلك لأنّ للمرشد الأعلى حصانته السياسية والدينية العالية في إيران وفرض العقوبات عليه بهذه الطريقة يتجاوز شخص خامنئي فيلحق الأذى بمكانته في أوساط الشعب، وهذا بمعزل عن كونه آمر الحرس الثوري الأعلى، وضابط المعايير بين المتشددين والمعتدلين في مؤسسات النظام ومراكز قواه كافة. وبهذا المعنى، وبمعزل عن زلة اللسان، فإنّ عقوبات ترامب شملت الإمام الخميني في قبره لأنها إنما طالت المقام الروحي والموقع القيادي وليس شاغله الفرد في صفته الراهنة.
ويلفت الانتباه أن هذا الإجراء الأمريكي الأخير يأتي على نقيض اللهجة المخففة التي اعتمدها ترامب مؤخراً بصدد التأزم مع إيران، واللهجة ذاتها كانت قد أتت على عكس التسخين العسكري وإسقاط الطائرة الأمريكية، وهذه المتناقضات الثلاثة لم تكن منسجمة مع سلال العقوبات الخانقة ولا أجواء الحرب الوشيكة التي أوحى بها البيت الأبيض وبعض كبار الصقور فيه. وذلك كله يشير إلى تخبط في المقاربة الأمريكية لا يسفر عن زلات اللسان وحدها، بل يهدد بالأخطار والعواقب الوخيمة.
كذلك لا يخفى أن هذا التصعيد الأخير يترافق مع حدثين غير عاديين تحتضنهما المنطقة، أولهما اجتماع القدس الثلاثي لمستشاري الأمن القومي في الولايات المتحدة وروسيا ودولة الاحتلال، وثانيهما ورشة المنامة التي يديرها جاريد كوشنر مستشار ترامب وقيل إنها سوف تبحث الترتيبات الاقتصادية لما يسمّى «صفقة القرن». وعناصر الربط بين الوقائع الثلاث أشد وضوحاً من أن تحتاج إلى تحليل وتأويل.
القدس العربي