في 24 حزيران/يونيو، خاطب سونر چاغاپتاي، ليزيل هينتز، كمال كيريسي، وآلن ماكوفسكي منتدى سياسي في معهد واشنطن. وچاغاپتاي هو زميل “باير فاميلي” ومدير برنامج الأبحاث التركية في المعهد. وهينتز هي أستاذة مساعدة في العلاقات الدولية والدراسات الأوروبية في “كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز”. وكيريسي هو زميل أقدم في “رابطة الصناعة والأعمال التركية” في “معهد بروكينغز”، حيث يدير “مشروع تركيا في المركز الخاص بالولايات المتحدة وأوروبا”. وماكوفسكي هو زميل أقدم في “مركز التقدم الأمريكي”. وفيما يلي ملخص المقررة لملاحظاتهم”.
سونر چاغاپتاي
تعتبر نتيجة انتخابات رئاسة بلدية اسطنبول التي جرت في 23 حزيران/يونيو بشرى سارة للديمقراطية في تركيا. فمرشح «حزب الشعب الجمهوري» المعارض أكرم إمام أوغلو هزم مرة أخرى بن علي يلدرم مرشح الحزب الحاكم الذي ينتمي إليه الرئيس رجب طيب أردوغان. وإذا كان بناء الديمقراطية يستغرق وقتاً طويلاً، فيبدو أن القضاء عليها يستغرق ايضاً وقتاً طويلاً. فحتى مع تسخير كل موارد الدولة ضد إمام أوغلو، نجح هذا الأخير في الانتخابات المعادة بفارق كبير، مما يدل على أن الديمقراطية في تركيا لا تزال تتمتع بالحيوية والانطلاق.
والواقع أن إحدى الاستراتيجيات الرئيسية التي اتبعها أردوغان في الحملة الانتخابية – وهي الكشف علناً عن رسالة موجّهة من رئيس «حزب العمال الكردستاني» عبدالله أوجلان من السجن إلى مناصري «حزب ديمقراطية الشعوب» [«حزب الشعوب الديمقراطي»] يطلب فيها مقاطعة الانتخابات – كانت فاشلة. فرئيس «حزب ديمقراطية الشعوب» صلاح الدين دميرطاش أوعز بنجاحٍ إلى مؤيديه بالتصويت لصالح إمام أوغلو، في إشارةٍ إلى أن كفة الجناح السياسي للحركة الكردية ربما تكون قد علت على كفة الجناح المسلح. وفي الوقت نفسه، ضَعُف موقف رئيس «حزب الحركة القومية» دولت بهتشلي/بهجلي، بسبب تأييده الضمني لرسالة أوجلان – وهو موقف سيكون من الصعب على قاعدة مناصريه القوميين الأتراك أن تنساه. وسوف تكون منافسة بهتشلي، رئيسة «حزب الخير» [«الحزب الجيد» (“إيي”)] ميرال أكشينار، المستفيد الأكبر من هذه التطورات، ومن المرجح أن تصبح واجهة “اليمين الجديد” لتركيا.
وقد تضررت السمة السياسية لأردوغان أيضاً، بعد أن تقوضت إلى حد كبير سمعته السابقة كممثلٍ لأولئك المهمّشين من قبل النظام العلماني في تركيا. فمن خلال إلغاء الفوز الضئيل الذي حققه إمام أوغلو في انتخابات آذار/مارس الأولى، تسبب عن غير قصد بظهور هذا المنافس الناشئ ومؤيديه بصورة المحرومين الجدد في تركيا، مما ساعدهم على زيادة هامش الفوز هذه المرة بحوالي خمسين ضعفاً.
إن الدعوة لإعادة الانتخابات كانت خطأ، علماً بأن الكثير من المتابعين اعتقدوا أن أردوغان غير قادر على ارتكابها. ومن المرجح أن الخطأ نتج عن تحوّل تركيا عام 2018 من نظام برلماني إلى نظام رئاسي، مما جعل عملية صنع القرار مركزية بدرجة كبيرة. فلم تعد السياسات تنتج عن طريق عملية مضنية من المداولات بين الخبراء والهيئات الحكومية، ولكن من خلال مكائد “سياسة القصر” بين مجموعة صغيرة من المستشارين، الذين غالباً ما يبنون قراراتهم على ما يخدم مصالحهم ويضر بمنافسيهم بدلاً مما هو الأفضل للبلاد.
ليزيل هينتز
لقد فاجأت النتائج الكثيرين، لكنها لا تعني بالضرورة أن الديمقراطية في تركيا تبلي بلاءً حسناً. فهناك الكثير من الأدلة على عكس ذلك، مثل المحاكمات المستمرة المتعلقة [باحتجاجات] “منتزه غيزي” واحتجاز عثمان كافالا وآخرين. إنّ الديمقراطية لا تتطلب أطرافاً ديمقراطية فاعلة فحسب، بل أيضاً حكومةً لا تشوّه سمعة هذه الأطراف ولا تقاضيها. وهذا أمرٌ بعيد المنال في الوقت الحالي.
ومع ذلك، يبقى فوز إمام أوغلو إنجازاً ضرورياً ومستحقاً كان يجري التحضير له منذ فترة طويلة. فقد بدأ الأمر مع احتجاجات “منتزه غيزي” في عام 2013 حين تكاتفت مجموعة متباينة من المواطنين غير الفعالين سابقاً لمقاومة ما اعتبروه سيطرة زاحفة للدولة على حياتهم. وأعقب ذلك “المسيرة من أجل العدالة” التي نظّمها «حزب الشعب الجمهوري» عام 2017 والحملة الرئاسية التي قام بها محرم إنجة عام 2018. وتضافرت هذه الأحداث لتولّد الزخم نحو انتصار ملموس في 23 حزيران/يونيو.
ويستحق إمام أوغلو التقدير لأنه لم يتبنَّ خطاب المواجهة والانقسام الذي يصدر في الغالب عن إنجة، والذي اعتبره الناس سابقاً ضرورياً لهزيمة أردوغان. فكلام إمام أوغلو يتسم بالهدوء والشمولية، ومناهض عموماً لسياسة الكراهية والاستقطاب التي ميزت الخطاب السياسي في تركيا خلال السنوات القليلة الماضية. كما أن الكثير من نجاحه ناشئ عن قدرته على إيصال رسالته دون الاستسلام للجدالات.
بالإضافة إلى ذلك، كان الدور الكردي فاعلاً في الانتخابات، إذ كان إمام أوغلو على استعداد للتواصل مع «حزب ديمقراطية الشعوب»، بينما كان الحزب مستعداً لدعمه. ويستحق دميرطاش الفضل في الوقوف بوجه أوجلان، فأهمية النتائج تتعدى نطاق الانتخابات، وخاصة فيما يتعلق بتحسين العلاقات بين أطراف المعارضة. كما أوضحت النتيجة أنه لا يمكن كسب أصوات الناخبين الأكراد بسهولة عن طريق وعود فارغة. وقد سبق لـ «حزب العدالة والتنمية» الذي يرأسه أردوغان أن قدّم ضمانات للأكراد ثم تراجع عنها لاحقاً. وبالتالي، عندما أطلق «حزب العدالة والتنمية» شائعات حول الإفراج عن أوجلان في الأسابيع الأخيرة ونشر رسالته على أمل التأثير على أصوات الناخبين الأكراد، فإنه بذلك قلل من فطنتهم السياسية إلى حدٍّ كبير.
كمال كيريسي
ستؤدي نتائج الانتخابات إلى إطلاق سلسلة من الخطوات في السياسة التركية، من بينها إعادة إرساء الديمقراطية، وإعادة تفعيل المؤسسات، وتجديد «حزب الشعب الجمهوري»، وإعادة هيكلة «حزب العدالة والتنمية». وقد بدأت الخطوة الأولى بالفعل كما رأينا من التصريحات المتواضعة التي أدلى بها أردوغان ويلدرم بعد الانتخابات. فالديمقراطية تميل إلى جعل الناس متواضعين، خاصة عندما تكون النتيجة حاسمةً كما كانت في الانتخابات الأخيرة.
وقد تنفتح أيضاً وسائل الإعلام في البلاد، بفعل التطورات التي تحدث على الصعيد الوطني والحاجة إلى تحقيق المكاسب. وسيؤدي هذا التوجه قريباً، من جملة أمور أخرى، إلى مناقشات عامة حول قرار حكومة أنقرة بشراء أنظمة الدفاع الصاروخي من نوع “أس-400” من روسيا والتقرب من موسكو عموماً. وستبدأ وسائل الإعلام بتوجيه أصابع الاتهام إلى المسؤولين عن الأخطاء الأخيرة في السياسة الخارجية، بدءاً من أردوغان.
وستبدأ الخطوة الثانية بإدراك مدى تضرر المؤسسات التركية من التحالف بين «حزب العدالة والتنمية» و “حركة غولن”، ولا سيما الجيش ووزارة الخزانة ووزارة الخارجية. ولحسن الحظ لا تزال هناك قوى بشرية ممتازة في الوزارات الحكومية ، ناهيك عن مختلف المنظمات غير الحكومية والمنظمات الدولية التي تعمل في تركيا. فالعديد من موظفي الوزارات هم من البيروقراطيين الجيدين الذين يؤمنون بالعمل وفق القوانين وليس وفق تعليمات شخص معين. وبالرغم من كل الأضرار التي لحقت بالمؤسسات وهجرة الأدمغة التي شهدتها البلاد، يستطيع هؤلاء الأشخاص أن يساعدوا على إخراج تركيا من مسارها الحالي.
أضف إلى ذلك أن توق الناس إلى الشمولية أقوى بكثير مما كان يتصور الكثيرون. فقد نجح إمام أوغلو في التواصل مع الناخبين من خلال خطابه الجامع ولغة جسده الودية، فتغلّب بهامشٍ كبير على نظام أردوغان القائم على الأغلبية. وعلى مدى سنوات عديدة، أثبت حزب أردوغان عدم قدرته على التكيف مع مجتمع محافظ للغاية. ومع ذلك، يختلف إمام أوغلو عن أردوغان لأنه يشعر بالارتياح ليس فقط مع القيم الجمهورية والعلمانية في تركيا، بل أيضاً مع مذهبها المحافظ – وكل ذلك دون اللجوء إلى الإسلاموية. وإذا كان بروز إمام أوغلو مؤشراً على حدوث تحوّلٍ أكبر داخل «حزب الشعب الجمهوري»، فقد تتوسع قاعدة الحزب بشكل كبير.
آلن ماكوفسكي
تعكس الزيادة الكبيرة في هامش الهزيمة التي مُني بها «حزب العدالة والتنمية» منذ آذار/مارس تراجع الاقتصاد التركي ورفض الشعب التلاعب الانتخابي الذي يمارسه أردوغان. وأظهر استطلاعٌ للرأي أُجري مؤخراً أن ما يصل إلى 13 في المائة من الناخبين الذين صوّتوا ليلدرم في الانتخابات الأولى كانوا يزمعون التصويت لمرشح آخر.
وبينما تشير التغطية الإعلامية إلى تضرر أردوغان، هناك احتمال ضئيل بأن تجري تركيا انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة، وهو أمر صعب للغاية في ظل النظام الجديد. ووفقاً لما هو مقرر حالياً، لن تجرى هذه الانتخابات إلا في عام 2023، لذلك من المستبعد أن يعلن أردوغان عن أي خطط لخفض فترة ولايته الرئاسية الأولى في هذا الوقت المبكر.
والاحتمال الآخر الوارد في هذا السياق هو أن تدعو المعارضة من خلال الأغلبية البرلمانية إلى إجراء انتخابات، ولكن هذا الأمر غير محتمل أيضاً. فالنظام الجديد زاد عدد الأصوات اللازمة للدعوة إلى إجراء الانتخابات من أغلبية بسيطة إلى 60 في المائة من النواب. لذا يتعين على المعارضة الاعتماد على حدوث انشقاقات كبيرة في «حزب العدالة والتنمية»، الذي يسيطر على 48 في المائة من المقاعد النيابية. وبالنظر إلى العناية الدقيقة التي يدرج بها أردوغان أسماء الموالين له على لوئح الحزب الانتخابية قبل كل انتخابات، فإن هذا يبدو غير مرجح.
ومع ذلك، فإن الضائقة الاقتصادية التي تمر بها تركيا تقوض بثبات الثقة بأردوغان. ويترتب عن ذلك وضعٌ فريد وخطير لا يمكن فيه تخفيف الضغوط السياسية عن طريق الانتخابات في أي وقت قريب.
وبغض النظر عما سيحدث في السنوات المقبلة، بدأت تبعات إرث أردوغان تظهر بالفعل في تركيا. فقد أظهر استطلاع للرأي أجري عام 2018، أنه بينما هناك نسبة غير مفاجئة من ناخبي «حزب العدالة والتنمية» (80 في المائة) تعتبر تركيا القائد الطبيعي للعالم الإسلامي، إلّا أنه ثمة نسبة ملحوظة بلغت 60 في المائة من ناخبي «حزب الشعب الجمهوري» تشاركها الرأي نفسه، وهذه المواقف الأخيرة لم يتم تصورها سابقاً.
معهد واشنطن