بعد سُبات طويل عاد الذهب إلى التربع على عرش المعادن الثمينة. وحققت صحوته أرقاماً بارزة في الأيام العشرة الأخيرة. وعزا المستثمرون السبب إلى ضعف العملة الأميركية، والتوترات الجيوسياسية الدولية التي يغذيها التدفق المستمر لمواقف الرئيس الأميركي حيال الصين ومعظم دول العالم. هذه العوامل أعادت البريق إلى المعدن الأصفر كملاذ آمن. وقد بلغ أعلى حد له أخيراً وهو 1449 دولاراً للأونصة، في مستوى لم يصل إليه منذ 6 أعوام.
سبب مباشر
هل من أسباب مباشرة لهذه القفزة النوعية في أسعار المعدن النفيس؟ رئيس “مجموعة الذهب والمجوهرات” في إمارة دبي توحيد عبد الله أوضح أنه “بما أن الإنتاج السنوي للمعدن بالعالم يوازي تقريباً الطلب عليه، فإن السبب المباشر لارتفاع أسعاره هو عدم رفع الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة الأميركية أسعار الفائدة”. وقال لـ”إندبندنت عربية”، إن “أسعار الذهب مرجّحة للصعود أكثر في حال عمدت السلطات النقدية الأميركية إلى تخفيض الفائدة في يوليو (تموز) المقبل”.
في العام 2018، قفزت عمليات شراء المعدن من جانب المؤسسات النقدية بنسبة 74%، وهو أعلى مستوى له في 4 عقود، فالذهب يسمح لها بتنويع احتياطياتها من العملات الأجنبية، والحدّ من اعتمادها على الدولار الأميركي. وتخزّن البنوك المركزية حول العالم في أقبيتها المفرطة في وسائل الأمان، احتياطياها من السبائك. وفي فرنسا بلغ حجم الذهب لدى البنك المركزي نهاية العام الماضي، قرابة 2436 طناً، أي ما يعادل 91 مليار دولار، أو 3.4% من الناتج المحلي الإجمالي.
البنوك المركزية
المصارف المركزية الرئيسية لا تخزن ذهبها فحسب، بل تحفظ ذهب مصارف دول أخرى تريد مقراً آمناً لثرواتها. وهذه الخدمة كان قد اقترحها “الاحتياطي الفيدرالي” الأميركي في نيويورك، و”بنك إنجلترا،” و”البنك المركزي الفرنسي”. وتمت في الأعوام الأخيرة عمليات إيداع كبيرة.
وتعمل معظم البنوك على زيادة حجم كتلتها من الذهب، بحيث لوحظ أن مشتريات العام 2018 من المعدن زادت بنسبة 74% عنها في العام 2017. وتتواصل هذه الوتيرة في السنة 2019 التي يصفها “مجلس الذهب العالمي” بأنها الأقوى منذ العام 1971. وبلغة الأرقام، في الربع الأول من السنة، عززت البنوك المركزية خزائنها بمقدار 140 طناً إضافياً من الذهب. وفي مايو (أيار)، بلغ إجمالي احتياطياتها 33,976.5 طن، أي ما يزيد على 20% من مخزون الذهب العالمي الذي تحتفظ به كلّ من الولايات المتحدة بشكل رئيسي (8,133.5 طن)، وألمانيا (3,369.7 طن)، وإيطاليا (2,451.8 طن)، وفرنسا (2,436 طن)، وروسيا (2,168.3 طن) والصين (1,885.5).
الذهب في السودان… مورد رئيسي أنهكته عمليات التهريب
ويشير الخبير توحيد عبد الله إلى أن “معظم البنوك المركزية حول العالم التي كانت باعت مراكزها من الذهب في السابق، تقوم منذ نحو 5 أعوام بإعادة شرائها، ولو تدريجياً. وهناك توجّه لدى مصرف الإمارات المركزي لشراء كميات كل سنة”.
وأوضح أن “الهدف لدى هذه المؤسسات هو زيادة احتياطياتها من الذهب”، وأشار إلى أن “الفوائد وإن كانت قليلة على الذهب، لكنها تشجّع الاستثمار فيه على المدى الطويل”.
أسباب تاريخية
ولفهم سبب لجوء البنوك المركزية إلى امتلاك الذهب، يتعين إلقاء نظرة على التاريخ. وتوضح في هذا المجال مؤسسة أبحاث تُعنى بالاستقرار المالي والعمليات في أوروبا، أن “المؤسسات النقدية التي تمتلك أكبر كمية من الذهب اليوم، تعود إلى القوى السياسية نفسها التي كانت مهيمنة في القرنين الـ19 والـ20”.
وتضيف أنه “بعدما اُستخدم المعدن الأصفر للمعاملات لآلاف السنين، دخل في صلب النظام النقدي مع وضع معيار له في القرن الـ19. ففي ذلك الوقت، أصدرت جميع العملات على أساس ضمان صرفها بالذهب، وهذا ما دفع بالدول الكبيرة إلى تجميع كميات منه”.
الصرف العائم
لكن هذا النظام اُستبدل، على أثر الكساد الذي حدث في ثلاثينيات القرن الماضي والحرب العالمية الثانية، بنظام “بريتون وودز” في العام 1944، ليصبح الدولار فقط هو العملة القابلة للتحويل إلى ذهب، في حين تمت فهرسة جميع العملات الأخرى وربطها بالعملة الأميركية. لكن المشكلة، أن الولايات المتحدة بدأت تطبع عملتها النقدية بشكل مفرط، خصوصاً لتمويل حرب فيتنام، وتم التخلي عن قابلية تحويل الذهب في مطلع سبعينيات القرن الماضي. وفي مرحلة ما بعد الحرب طُبّق نظام أسعار الصرف العائمة، الذي ما زال سارياً، ففيه تختلف قيمة العملات حسب العرض والطلب، وهذا ما أفقد الذهب دوره النقدي، وتراجع اهتمام البنوك المركزية به تدريجياً في التسعينيات. وعمل البعض على تخفيف خزائنه من الذهب واستبداله باحتياطيات من العملات الأجنبية. وكان ذلك على شكل سندات دين في الولايات المتحدة. ونتيجة لذلك، انخفض سعر المعدن الأصفر، مثيراً هلعاً عند الدول التي تنتجه.
نقطة التحوّل… 2008
في السنوات التالية، تعافت سوق الذهب تدريجياً. أولاً، لزيادة الطلب عليه في الأسواق الآسيوية، لا سيما الهند، وثانياً لابتكار منتجات مالية سمحت للمستثمرين من القطاع الخاص بالمراهنة على سعر الذهب من دون الحاجة إلى الاحتفاظ به. بعد ذلك جاءت أزمة العام 2008 التي كانت نقطة تحوّل رئيسية. فجميع الذين اعتبروا أن المعدن هو استثمار قديم، لجأوا إليه في أوقات عدم اليقين، وعاد ليكون ملاذاً آمنا. وفي عز العاصفة المالية، توقفت البنوك المركزية الكبيرة عن بيع السبائك. وبدأت الدول الناشئة تسجيل عمليات شراء، من أجل تأمين احتياطياتها.
ملاذ آمن
ويعتبر اقتصاديون أنه “في أوقات المخاطرة، كما هو الوضع الآن، يسمح ملاذ الذهب للبنوك المركزية بتنويع احتياطياتها قليلا”. وبالنسبة إلى الجزء الأكبر منها فهي مكونة بالدولار. ففي نهاية العام 2018، حُدد 61.7% من احتياطيات المؤسسات النقدية بالعملة الأميركية، وفقاً لـ”صندوق النقد الدولي”، في مقابل 20.7% باليورو، 5.2% بالين الياباني، و4.4% بالجنيه الإسترليني، و1.9% فقط باليوان الصيني. وما زال الدولار هو العملة الأكثر قابلية للاستبدال في أي مكان من العالم. ويُعدّ أساسياً لجميع أنظمة الدفع الدولية، ويقف خلفه “الاحتياطي الفيدرالي” الأميركي ودولة ذات صدقية.
“الدولرة”… والسلّة
في ظل الظروف العالمية السائدة، يسعى بعض محافظي البنوك المركزية إلى الخروج من “دولرة” احتياطياتهم عن طريق شراء اليورو واليوان وبالطبع الذهب، في انتظار تجسيد بديل قوي من الدولار. هذه هي الحال بالنسبة إلى روسيا التي كانت أكبر مشترٍ للمعادن (274.3 طن) في العام 2018، تليها كازاخستان (50.6 طن)، فالمجر (28.4)، وبولندا (25.7)، والصين (10 أطنان). الملاحظ أن هذه الدول يقع معظمها على “طريق الحرير” الجديد، ما يشير إلى تغييرات هيكلية ربما تحدث في النظام النقدي.
وفي هذا الإطار، رأى رئيس “مجموعة الذهب والمجوهرات” في إمارة دبي، أن “الذهب سيكون جزءاً من سلة كاملة تضم المعادن النبيلة كالبلاديوم والفضة وغيرهما، إضافة إلى عملات رئيسية متنوعة، تشكّل في مجموعها بديلاً للمصارف المركزية من الاحتياطيات الراهنة”. وتوقع أن يتحوّل المعدن الأصفر من سلعة Commodity، إلى أن يصبح “شبه نقد” Quasi Money.
انبدندت