شهدت منطقتنا في الآونة الأخيرة جملة من التحركات واللقاءات، وربما التفاهمات التي قد تبدو منفصلة متباعدة، إذا ما تم تناولها في سياقاتها الفرعية، وأُهمل السياق الأوسع والأشمل الذي يجعلها في نهاية المطاف خطوات متكاملة، يتم التوصل إليها بعد مماحكات وضغوط دبلوماسية واقتصادية، وحتى ميدانية عسكرية إذا ما لزم الأمر، بين القوى الدولية والإقليمية الفاعلة في مسلسل أحداث المنطقة.
فقبل أيام كان هناك اجتماع أمني رفيع المستوى في القدس الغربية ضم رؤساء مجالس الأمن القومي في كل من الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا الاتحادية، وإسرائيل (جون بولتون، نيكولاي باتروشيف، مئير بن شبات)، وذلك للتباحث حول الموضوع السوري بصورة أساسية، إلى جانب موضوعات فرعية أخرى.
وبالتزامن مع هذا الاجتماع، كان هناك لقاء “فرصة القرن” على حد تعبير جاريد كوشنر مستشار الرئيس ترامب وصهره في الوقت ذاته، وهو الذي هندس هذا اللقاء، وأشرف عليه في المنامة تحت عنوان: “السلام من أجل الازدهار”. وهو لقاء ربما استلهم الفكرة التي جاء بها الدبلوماسي الفرنسي المعروف جان مونيت، وتبناها وأعلن عنها وزير الخارجية الفرنسي روبير شومان في منتصف القرن الماضي، وهي الفكرة التي أدت لاحقاً إلى تأسيس الاتحاد الأوروبي. جوهر تلك الفكرة يقوم على محاولة تجاوز واقع الحروب المدمرة في أوروبا من خلال بوابة الاقتصاد. هذا مع إقرارنا بجملة التمايزات والتباينات بين الواقع الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية، والواقع الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط راهناً، والواقع العربي تحديداً. وما يستنتج من هذا هو أن استلهام الفكرة المشار إليها يأتي لتمرير صفقة ما تخص موضوع النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي بإرادة دولية. وهي صفقة تستغل واقع ضعف القوى الإقليمية. هذا بينما كانت الفكرة الأوروبية تستند إلى المصالح الأوروبية ذاتها، وهي المصالح التي عملت من أجلها القوى الأوروبية بنفسها، وهي القوى عينها التي تمكنت من إبعاد مجتمعاتها عن مخاطر الحروب، ونجحت في عملية إعادة بنائها.
وقبل هذين الاجتماعين، كانت هناك لقاءات في لبنان، سواء بين القوى اللبنانية المحلية، أو بين الحكومة اللبنانية وإسرائيل بصورة غير مباشرة من خلال الوسيط والراعي الأمريكي، وذلك من أجل موضوع ترسيم الحدود بين البلدين.
فالتقارب الحاصل بين تيار المستقبل بزعامة سعد الحريري، والوطنيين الأحرار بزعامة جبران باسيل يطرح أكثر من تساؤل، ويحتاج إلى أكثر من تفسير. هل هو تقارب محلي تفرضه مستلزمات الوضعية اللبنانية، أم أنه نتيجة لتفاهمات دولية -إقليمية حول لبنان؟ تساؤل لا يمكن فصله عما يجري من لقاءات ومشاورات حول الوضع السوري تحديداً، وحول الصراع المعلن بين الولايات المتحدة الأمريكية من جهة، وإيران من جهة أخرى، وانعكاسات هذا الصراع على الاصطفافات الإقليمية والأوضاع الداخلية في دول المنطقة، خاصة في كل من لبنان والعراق وسوريا.
فبعد الإعلان عن عمليات التخريب التي طالت ناقلات النفط في منطقة الخليج؛ واستهداف المنشآت النفطية السعودية، وتصاعد وتيرة صواريخ الحوثي الموجهة نحو الأراضي السعودية، إلى جانب إسقاط طائرة الاستطلاع الأمريكية، وردود الأفعال التي تراوحت بين الرغبة في التصعيد والدعوة إلى التهدئة، والعودة إلى القنوات الدبلوماسية، والاستمرار في الضغوط الاقتصادية؛ بعد كل هذه المستجدات والتفاعلات، يُلاحظ عودة المبعوث الدولي الخاص بالملف السوري غير بيدرسون إلى الحديث عن إمكانية الانطلاق باللجنة الدستورية كمقدمة للعودة إلى تحريك مسار جنيف للمفاوضات، وذلك بعد التعثر الذي شهده مسار أستانة، خاصة فيما يتصل بموضوع إدلب الذي يبدو أنه ما زال ورقة بيد تركيا لا تريد التنازل عنها للروس وحلفائهم قبل الحصول على ضمانات تخص هواجسها واهتماماتها المتمحورة حول الشمال السوري بصورة عامة. وليس من المستبعد أن يكون هناك تفاهم تركي- أمريكي حول هذا الموضوع رغم كل الخلافات المعلنة بينهما.
فتحريك موضوع اللجنة الدستورية، إذا ما حصل فعلاً، لن يكون بعيداً من الموافقة الروسية التي ستترجم ضغطاً على النظام السوري الموزع بين التوجيهات والأوامر الروسية، من جهة والإيرانية من جهة ثانية، ولكن الموافقة الروسية لن تكون بالمجان، وهذا أمر يدركه الأمريكان تماماً.
وما يلاحظ في الإطار العام، هو أن الجانب الأمريكي يريد التفاهم مع الروس أولاً، لفرض تفاهمات يلوح بها في كل المناسبات على الجانب الإيراني. هذا مع الاستمرار في عملية الضغط على الإيرانيين عبر العقوبات الاقتصادية التي طالت حتى الآن أكثر الشخصيات والمؤسسات الرسمية الإيرانية أهمية وتأثيراً، ومن خلال الحشود العسكرية، سيما البحرية والجوية منها.
وبناء على ما تقدم، يلاحظ أن الجميع في انتظار ترجمة نتائج اللقاء الأمني الثلاثي الرفيع المستوى الذي انعقد في إسرائيل مؤخراً. ومما لا شك فيه أن نتائج ذلك اللقاء، الذي قد يتحول إلى آلية مستمرة، كانت محوراً للمباحثات التي بين بوتين وترامب في قمة العشرين، أوساكا – اليابان، وربما محورا للمباحثات التي كانت بين ترامب وزعماء آخرين.
والسؤال الذي يفرض ذاته هنا هو: هل سيتم التعامل مع كل موضوع من الموضوعات الإقليمية بمفرده، وستتم التفاهمات بين الجانبين الأمريكي والروسي حول كل موضوع بذاته؟ أم أن المسارات ستكون متزامنة، وبالتالي ستكون هناك توافقات حول حزمة أو سلة إقليمية، تشمل سوريا والعراق ولبنان وفلسطين، وستكون هناك عملية إعادة نظر في الأدوار الإقليمية لكل من تركيا ومصر والسعودية وإيران؟
أما بالنسبة إلى إسرائيل، فالمعطيات جميعها توحي بأنها هي المستفيد الأول والأكبر من كل ما جرى في المنطقة حتى الآن. هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار واقع الالتزام المطلق من الجانبين الأمريكي والروسي بأمنها، إلى جانب استعداد الدول الإقليمية المؤثرة للدخول معها في تفاهمات مباشرة أو غير مباشرة، تفاهمات تأخذ معاييرها الأمنية ومصالحها الاستراتيجية بعين الاعتبار.
ويبقى السؤال: ماذا عن الموضوع السوري؟ هل سينتظر التوافقات في الملفات الإقليمية الأخرى، وربما الدولية التي تتمحور حولها اهتمامات الأمريكان والروس؟ أم أن التوافق حول إيجاد مخرج له، يراعي حسابات المتفقين بطبيعة الحال، وذلك عبر تشكيل لجنة دستورية شكلية، تنظّم انتخابات صورية، سيكون المدخل لمعالجة الملفات الأخرى؟
تساؤل إشكالي، لا يمكننا تلمّس ملامح جوابه في ظل المعطيات المتوفرة حالياُ. ولكن الأكيد المؤكد هو أن الجانب الأمريكي ما زال في مقدوره حسم الأمور في حال توفر الرغبة والإرادة. ولكن أمريكا في انتظار نفسها، فالحملة الانتخابية بدأت، وقد علمتنا التجارب أن القرارات الحاسمة لا تتخذها الإدارات الأمريكية الساعية من أجل التجديد لذاتها في عام الانتخابات. ولكن الوضع يختلف في حال توقع تلك الإدارات إمكانية الاستفادة من تلك القرارات في طريق السعي نحو هدف التجديد.
كيف سيكون الحال بالنسبة إلى إدارة ترامب؟ الأمور ليست واضحة تماماً، ولكن الخطوات التي أقدمت عليها هذه الإدارة حتى الآن توحي بأنه لن يكون هناك حسم رادع، بل سيكون هناك سعي من أجل بلوغ توافقات تأخذ بعين الاعتبار المصالح الاستراتيجية الأمريكية أولاً.
القدس العربي