الدور التركي الجديد في الشرق الأوسط

الدور التركي الجديد في الشرق الأوسط

555b5e6d5f6a7
قدمت الانتخابات البرلمانية التركية الأخيرة التي جرت يوم الأحد (7 يونيو/ حزيران) درساً مهماً للدول العربية قبل غيرها. فمعظم الدول العربية تعاملت في العامين الأخيرين مع تركيا باعتبارها رجب طيب أردوغان، أو حكومة رجب طيب أردوغان. فقد غابت الدولة التركية والمجتمع والشعب بكل مكوناته السياسية والاجتماعية والثقافية عن حسابات معظم الدول العربية ،فتحولت العداءات مع أردوغان وحكومته وحزبه «العدالة والتنمية» إلى عداءات مع تركيا، كما تحولت الصداقات مع أردوغان وحكومته وحزبه إلى صداقات مع تركيا. الآن تغيرت الخريطة السياسية تماماً، ولن يكون أردوغان صاحب الكلمة الأولى، أو صاحب الإرادة المطلقة في إدارة السياسة والحكم، إذا نجح في أن يكون حزبه طرفاً أساسياً في حكومة ائتلافية، أما إذا استطاعت المعارضة أن تشكل حكومة ليس لحزب العدالة والتنمية وجود فيها فإن الأمور ستختلف تماماً.
لقد وضعت نتائج الانتخابات التي لم يستطع حزب العدالة والتنمية أن يفوز بالأغلبية المطلقة (نصف المقاعد +1) أمام أحد خيارين أحلاهما مر: فإما أن يقبل بحكومة ائتلافية بشروط الأحزاب التي ستدخل في هذه الحكومة، وإما الدعوة إلى انتخابات مبكرة، على أمل استعادة زمام المبادرة مرة أخرى باستعادة الأغلبية المطلقة.
واقع الحال الآن يقول إن حزب العدالة والتنمية ليس له في البرلمان الجديد غير 258 نائباً بعد أن كان له 327 نائباً في البرلمان السابق، ولكي يستطيع أن يشكل حكومة منفردة فإنه في حاجة إلى 18 نائباً من أحزاب المعارضة ليصبح لديه 276 نائباً وهو الحد الأدنى المطلوب لتشكيل الحكومة، فمن أين سيأتي بهذا العدد؟
والإجابة من المعارضة، والمعارضة بينها من يرفض أن يدخل في حكومة ائتلافية بالمطلق مثل «حزب الشعوب الديمقراطي» وزعيمه صلاح الدين ديميرطاش الذي تجاوز حاجز ال «10%» والذي كان يحول دون دخول الحزب في السابق في البرلمان، لكن الحزب استطاع أن يقتنص فوزاً تاريخياً بفضل زعامته التي تنافس زعامة أردوغان، وقدرات هذا الزعيم الشاب الكاريزمية الذي نجح في توحيد الصوت الانتخابي الكردي في كافة أنحاء تركيا ضد أردوغان وحزبه، وبفضل أخطاء فادحة ارتكبها أردوغان ضد الأكراد في سوريا وخاصة في منطقة عين العرب (كوباني) عندما انحاز إلى «داعش» ومنع دخول متطوعين أكراد لنصرة أشقائهم من أكراد سوريا.
ومن بين أحزاب المعارضة من يفرض «شروط إذلال» على الرئيس أردوغان وحزبه للمشاركة في حكومة ائتلافية. فحزب «الشعب الجمهوري» وحزب «الحركة القومية» يطالبان أردوغان بمغادرة «القصر الأبيض» الجديد الذي انتقل إليه بعد انتخابه رئيساً للجمهورية وأن يعود إلى القصر الجمهوري القديم في «تشانكايا» كشرط للدخول في أي ائتلاف. وقد وعد زعيم حزب الشعب الجمهوري بتسليم «القصر الأبيض» الجديد إلى الجمعيات الخيرية، في حين تعهد حزب «الحركة القومية» بتحويله إلى مجمع للوزارات.
أردوغان رفض كل الشروط ووضع «خطاً أحمر» حول قصره وحول شرعيته مؤكداً أنه لن يقبل مناقشة هذين الشرطين، ونقلت عنه صحيفة «ميليت» أن «الانتخابات المبكرة ستكون حتمية إذا لم يتمكن حزب العدالة والتنمية والمعارضة الرئيسية من تشكيل حكومة جديدة خلال المهلة الدستورية، ومدتها 45 يوماً من تاريخ إعلان نتائج الانتخابات»، كما أعلن أنه «يعتزم تكليف حزب العدالة والتنمية أولاً بتشكيل الحكومة الجديدة، وإذا لم يتمكن الحزب الذي جاء في المرتبة الأولى في الانتخابات من تحقيق ذلك، وإذا لم يتمكن حزب الشعب الجمهوري الذي جاء في المرتبة الثانية هو الآخر من تشكيل حكومة، فإن التوجه إلى صناديق الاقتراع مرة أخرى وفقاً للدستور سيكون أمراً لا مفر منه.
الخيار الأخير له أهمية عند أردوغان على أمل أن ينجح في تحسين ما أفسدته انتخابات السابع من يونيو/ حزيران، لكنه لا يملك أوراقاً قوية لخوض مثل هذه الانتخابات في ظل الوضع الراهن المأساوي لحزبه الذي جرى تفريغه من قياداته التاريخيين بسبب رفض أردوغان تغيير أو على الأقل تعديل اللائحة الداخلية للحزب التي تمنع من مرت عليه ثلاث ولايات نيابية من الترشح مجدداً. الذين خرجوا من حلبة الانتخابات البرلمانية الأخيرة من كبار قادة الحزب أمثال بولنيت ارينتش وبشير أتالاي وجميل تشتيشيك على قناعة بأن هذه هي إرادة أردوغان كي يتفرد بالزعامة، لكن هذا التفرد كانت نتيجته تفريغ الحزب من قوته الضاربة، لكن هناك أيضاً تحديين ، أولهما، العداء السافر الذي يكنه تيار فتح الله جولين لأردوغان وإصراره على عدم تمكين حزب العدالة والتنمية من التفرد مجدداً بالسلطة. ثم إن أحزاب المعارضة التي فازت بجدارة في هذه الانتخابات وخاصة حزب «الشعوب الديمقراطي» الكردي لن تعطي لأردوغان فرصة ليهنأ بانتخابات جديدة وميسرة حتى ولو نجح في استغلال بوادر أزمة اقتصادية أخذت تفرض نفسها، لإدراكهم أنه هو من يسعى إلى افتعال هذه الأزمة كورقة ضغط على الناخبين تحمل رسالة تقول إنه «بدون حزب العدالة والتنمية لا تقدم ولا رخاء اقتصادي».
بهذا المعنى يمكن القول إن أردوغان سوف يضطر إلى القبول بالقانون الجديد، أي قانون الائتلافات الحكومية بما يتضمنه من حسابات معقدة أهمها بالطبع القبول بالمساومات السياسية وتقديم التنازلات، خصوصاً أن أحزاب المعارضة بدأت تأخذ زمام مبادرة تشكيل حكومة ائتلافية لا يشارك فيها حزب العدالة والتنمية على نحو ما جاء على لسان مسؤولين من حزب «الشعب الجمهوري» من أنهم سيبحثون مع حزب «الحركة القومية» تأليف حكومة ائتلافية على أن يدعم حزب «الشعوب الديمقراطي» هذه الحكومة من الخارج.
في كل الحالات سيخسر حزب العدالة والتنمية احتكاره للسلطة ومصادر القوة وخاصة في المواقع المؤثرة مثل رئاسة المخابرات ومديري الأمن والمجلس الأعلى للقضاء والمجلس الأعلى للتعليم والمجلس الأعلى للإعلام، وكلها أجهزة مهمة كانت أهم مصادر قوة أردوغان الذي عليه أن ينسى مشروعه لفرض نظام حكم رئاسي يعطيه كل السلطة على حساب رئيس الحكومة، فهو سيكمل مدته الرئاسية في ظل رئيس حكومة في يده كل السلطات، ومن ثم فإن سياسة تركيا الخارجية سوف تواجه تغييرات مهمة خاصة بالنسبة للشرق الأوسط وبالتحديد التحالف التركي مع جماعة «الإخوان» المسلمين ومع تنظيم «داعش» والعداء لمصر، فحلم الإمبراطورية العثمانية الجديدة يودع التاريخ قبل أن يبدأ وعلى الدول العربية أن تكون واعية بما يحدث في تركيا وخياراتها السياسية الجديدة.

د.محمد سعيد إدريس
صحيفة الخليج