أرادت إيران من إسقاط الطائرة الأميركية المسيرة، “أر كيو- 4 غلوبال هوك”، الضغط على الإدارة الأميركية، لقبول الشروط الإيرانية للتفاوض، من جهة، والضغط على بقية الدول الموقعة على “خطة العمل الشاملة المشتركة”، المعروفة إعلاميا بالاتفاق النووي مع إيران؛ روسيا والصين وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، لإيجاد حل يفسح لها بالاستفادة من الفوائد الاقتصادية التي انطوى عليها هذا الاتفاق، من جهة ثانية.
بإسقاط الطائرة، تجاوزت إيران عتبة سياسة حافة الهاوية التي اعتمدتها بعد تصعيد العقوبات الأميركية ضدها، وتقدمت خطوةً نحو المواجهة المباشرة؛ بعد أن خاب أملها في الآلية المالية الأوروبية (إينستكس) للتعامل التجاري معها، التي وضعتها فرنسا وبريطانيا وألمانيا؛ وقصرت التعامل عبرها بمجالي الغذاء والدواء، اللذيْن لم تشملهما العقوبات الأميركية، وإحساسها أن معظم الضغط الدولي للإبقاء على الاتفاق النووي موجه إليها.
اتبعت الإدارة الأميركية والنظام الإيراني مقاربتين متناقضتين في إدارة الأزمة. الإدارة، ولاعتباراتٍ محليةٍ وإقليميةٍ ودولية، أهمها المحلية، عدم رغبة الأميركيين في الانخراط في حربٍ جديدةٍ بعد الخسارة الثقيلة في أفغانستان والعراق، بتكلفة بلغت 7 تريليون دولار وآلاف القتلى والجرحى والمعاقين، ورغبة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بالفوز بفترة رئاسية ثانية. ولذلك هو يزن مواقفه وخطواته بدلالة توجهات قاعدته الانتخابية التي التفّت حوله في حملته الانتخابية الماضية، لتطابق مواقفهما من الانخراط في الصراعات الخارجية، في ضوء تبنيه شعار “أميركا أولاً”، من جهة، ووجود تحفظ إقليمي ودولي على انسحابه من الاتفاق النووي، من جهة ثانية، وحاجته إلى تشكيل إجماع إقليمي ودولي، كي يضمن نجاح العقوبات في إجبار النظام الإيراني على القبول بالجلوس إلى طاولة للتفاوض على اتفاق نووي جديد. فالعقوبات ما زالت أميركية فقط، من جهة ثالثة، ما جعله حذرا في خطواته، ومتريثاً في الرد على خطوات النظام الإيراني الاستفزازية، في مياه الخليج أو العراق والسعودية والإمارات، ذلك أن الدخول في حربٍ، وتكبد خسائر مالية وبشرية في هذا التوقيت، ليس في مصلحته. وهذا يفسر، إلى حد كبير، تأرجح مواقفه وخطواته بين التصعيد والتهدئة. اعتمد ترامب
“النظام الإيراني عقائدي ويعطي صورته الذهنية اهتماماً أكبر من اكتراثه بمعاناة المواطنين” التصعيد الدبلوماسي، من خلال تغريدات قاسية، مثل التصريح بإبادة إيران في حال اعتدت على المصالح الأميركية، والتلويح بوجود مبرّر قانوني لضربها: تعاونها مع “القاعدة”، واتخاذ قرارات استفزازية، مثل تصنيف الحرس الثوري منظمة إرهابية، وفرض عقوباتٍ على المرشد الأعلى ودائرته الضيقة، وفرض مطالب تعجيزية كشروط بومبيو الـ12، وحشد مزيد من القدرات العسكرية النوعية. بهذا التصعيد يستفز قادة إيران، ويدفعهم إلى الرد، وارتكاب أخطاء سياسية وميدانية، تساعده في صياغة قضية ضدها، وكسب تأييد الأميركيين في أي إجراء قد يتخذه ردا على ذلك، وتأييد الكونغرس بمجلسيه. ويتصرف الكونغرس باعتباره سلطة دولية عليا، لقراراته أولوية على القرارات الوطنية للدول، ودور دستوري في قرار الحرب، وصرف الأموال اللازمة لخوضها، وحشد تأييد إقليمي ودولي لمواقفه من استفزازات القادة الإيرانيين؛ بشكل يعمّق عزلة النظام الإيراني، ويفقده بعض أوراق قوته. كذلك اعتمد ترامب التهدئة والرسائل الإيجابية، مثل قوله: “إنه سيكون أفضل صديق لإيران”، و”إنه على استعداد للتفاوض معها من دون شروط مسبقة”، والدعوة إلى اتفاق معها تحت شعار “دعنا نجعل إيران عظيمة مجدّدا”، و”إنها ستصبح دولة ثرية”، وما انطوت عليه خطوته الرمزية بدخول أرض كوريا الشمالية من تلميح إلى استعداده للاعتراف بالأنظمة المناوئة والمخالفة لسياساته، وبذلك يربك قادة النظام الإيراني ويزرع الشك والخلافات بين صفوفهم.
لقد حدّد ترامب خياره: لا حرب، وربط الرد العسكري بالتعرّض لمصالح أميركية أو قتل أميركيين، وتصعيد الضغوط على النظام الإيراني، عبر فرض مزيد من العقوبات لـ”تصفير صادرات النفط والغاز”، وتوسيعها لتشمل موادّ ومصادر مالية أخرى (البتروكيماويات والحديد والصُلب)، في إطار ما سماها “حملة الضغط القصوى”، لإجبار حكام طهران على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، من أجل إبرام اتفاق نووي جديد، أو الانسحاب من الاتفاق الحالي، وعودة الإجماع والعقوبات الدولية ضد إيران.
تبنّى النظام الإيراني مزيجا من الخطوات الدبلوماسية: شكوى لمحكمة العدل الدولية وأخرى
“تبنّى النظام الإيراني مزيجا من الخطوات الدبلوماسية: شكوى لمحكمة العدل الدولية وأخرى لمجلس الأمن الدولي، ضد العقوبات الأميركية” لمجلس الأمن الدولي، ضد العقوبات الأميركية، وتجاهل قرارات دولية بشأن تطوير الصواريخ البالستية وتصدير الأسلحة، والعمل على خرق العقوبات الأميركية ببيع النفط بطرق ملتوية: تهريب، مقايضة، بيع بسعر مخفض.. إلخ، والضغط على الأوروبيين والروس والصينيين لتخفيف أثر العقوبات الأميركية. ويريد النظام الإيراني من كل هؤلاء تأمين أسواق لنفطه بواقع مليوني برميل باليوم، كي يحصل على موارد مالية كافية لوارداته واقتصاده، وتوسيع نطاق عمل الآلية المالية الأوروبية لتشمل النفط والغاز، والميدانية، وتسريب أنباء زيارة قائد فيلق القدس والمشرف على العمليات الخارجية، اللواء قاسم سليماني، إلى العراق، ومطالبته المليشيات العراقية الموالية الاستعداد للمواجهة، والتي قصفت السفارة الأميركية في بغداد والقنصلية الأميركية في البصرة؛ كما استهدفت مواقع لشركة إكس موبل النفطية الأميركية في البصرة بقذائف الهاون، وقصفت خط نقل نفط شرق غرب السعودي بطائرات مسيّرة، وفق الاستخبارات الأميركية، كذلك قصف الحوثيون أهدافا داخل السعودية بطائرات مسيرة وصواريخ بالستية إيرانية الصنع، ومحطات كهرباء ومطارات مدنية (أبها وجازان). وأسقط النظام الإيراني الطائرة الأميركية، واستنفر خلايا نائمة تابعة لحزب الله اللبناني في عدد من الدول، لإثارة الذعر من تجدّد العمليات الإرهابية ضد المصالح الإسرائيلية والغربية، وضد المعارضة الإيرانية في الخارج.
لقد حدّدت القيادة الإيرانية خيارها: الصبر الاستراتيجي، بداية، تلاه تحرك دبلوماسي وسياسي، التهديد بإغلاق مضيق هرمز وإشعال الفوضى في أسواق النفط العالمية، وعمليات تنفذها أذرعٌ خارجيةٌ، يسهل التنصّل منها، ثم خرق متدرج لبعض التزاماتها بموجب الاتفاق النووي، وتجاوز كمية اليورانيوم المخصب المسموح امتلاكها، المحددة بثلاثمائة كيلوغرام، والماء الثقيل، المحدد بـ130 طناً، وتجاوز نسبة التخصيب المسموح بها وهي 3.67%، إلى 5% والتهديد برفعها إلى أكثر من 20%. كل ذلك من أجل الضغط على الشركاء المتمسّكين بالاتفاق، روسيا والصين وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، للقيام بالمطلوب منهم للإبقاء على الاتفاق حياً؛ وعلى الإدارة الأميركية للقبول بالشروط الإيرانية للتفاوض: العودة إلى الالتزام بالاتفاق؛ ورفع العقوبات، ودفع تعويضات لإيران تعويضا لها عن الضرر الذي لحق بها نتيجة فرض العقوبات طوال ال 14 شهرا الماضية.
تلتقي المقاربتان، الأميركية والإيرانية، في نقطة رئيسة: رفض الحرب، وتختلفان في الخطوات العملية، فالإدارة الأميركية تراهن على الزمن، وتأثير العقوبات الاقتصادية لتحقيق أحد هدفين: قبول النظام الإيراني بالجلوس إلى طاولة التفاوض أو حصول انهيار اقتصادي، وثورة شعبية ضد النظام الذي أهدر إمكانات البلاد في دعم قوى خارجية، ولم يلتفت إلى معاناتهم. على الضد من ذلك، يريد النظام الإيراني التخلّص من العقوبات، في أقرب وقت، لأنها تضعفه مع مرور الأيام، وهو بين خيارين صعبين: الذهاب إلى الحرب، وهو يعلم الكلفة الثقيلة التي سيتحملها جرّاء ذلك، أو الذهاب نحو التفاوض بالشروط الأميركية التي اعتبرها استسلاما ومذلة، فيحطم صورته عن نفسه، ويهز صورته نظاما مقاوما ويمزق معادلة هيمنته وسيطرته على الشعب الإيراني.
تعاني تكتيكات كلا الطرفين من نقاط ضعف، فالتكتيك الأميركي يعاني من ضعف الجدوى، لأن
“تلتقي المقاربتان، الأميركية والإيرانية، في نقطة رئيسة: رفض الحرب، وتختلفان في الخطوات العملية” النظام الإيراني عقائدي، ويعطي صورته الذهنية اهتماما أكبر من اهتمامه بمعاناة المواطنين، ولذا كان رده استغلال العقوبات الأميركية لدفع البلاد إلى مزيد من التشدد، والعمل على توحيد الشعب في مواجهة أميركا؛ واستغلال الأزمة من أجل تجديد شرعيته، وقمع المعارضة الداخلية. هذا مغزى لجوئه إلى التصعيد الميداني بإسقاط الطائرة الأميركية، لشد عصب الداخل ضد العدوان الخارجي، من جهة، وإحداث أزمةٍ كبيرةٍ تؤدي إلى تحرّك دولي لاحتواء الأزمة ورفع العقوبات، كليا أو جزئيا، من جهة ثانية، أو تسجيل نقاط ضد القوة الأميركية الجبارة تسمح بتعديل شروط التفاوض؛ أو تبرّر الجلوس إلى طاولة التفاوض تحت راية التفاوض من موقع القوة، من جهة ثالثة. نقطة ضعف التكتيك الإيراني القاتلة أن قوته العسكرية أضعف من أن تحقّق نصرا مهما على القوة الأميركية، ما يعني، في حال استفزاز أميركا عسكريا، انزلاق النظام نحو الدمار، بمنحه أميركا مبرّر مواجهته عسكريا واستخدام قوة قصوى، من دون هواجس من عواقب دولية.
الأزمة طويلة في ضوء الحاجة إلى زمن مديد لإحداث الأثر الأقصى من العقوبات، واستبعاد مواجهة عسكرية في هذه اللحظة السياسية، في ضوء قدرة النظام الإيراني على رفع كلفة أي عمل عسكري ضده، وعدم وجود استراتيجية خروجٍ لدى الإدارة الأميركية التي يقودها رئيسٌ يثق بغرائزه أكثر من ثقته بالدراسات والخطط، ما لم تحصل نقلة خاطئة على رقعة الشطرنج تقود إلى انفجار الأزمة.
العربي الجديد