هل الثقافة قادرة على فتح الحدود البرية بين الجزائر والمغرب؟

هل الثقافة قادرة على فتح الحدود البرية بين الجزائر والمغرب؟

كذبة التهريب والإرهابلا تزال الحدود البرية مصفدة بين الجزائر والمغرب منذ العام 1994، هي المهزلة الكبيرة التي سكت الجميع عنها أو يكاد؟

بحجة ماذا تم غلق الحدود؟ ولأجل معاقبة مَنْ تم غلق الحدود البرية؟

ببساطة، هل الخوف من “تهريب الحشيش” من المغرب هو ما جعل النظام الجزائري يغلق الحدود، ألم تصل إلى ميناء بوهران باخرة بسبعمئة وواحد (701 كلغ) من الكوكايين، وهذا ما تم اكتشافه وما قد يكون وصل في السابق واللاحق ربما أكبر وأكثر وأخطر؟

التهريب بين البلدين لا يمر عبر المنافذ الشرعية والرسمية التي هي في مصلحة المواطنين البسطاء وفي مصلحة العلاقة بين الشعبين الشقيقين. التهريب ينشط حين تكون الحدود مغلقة وينشط بطرق ومنافذ يصنعها له وبشكل مدروس وناجح، وله في ذلك خبراء؟

إذن، حجة محاربة التهريب هي كذبة لا يمكن لعاقل تصديقها على الإطلاق؟

بحجة الخوف من تصدير الإرهاب؟ لماذا لم تغلق الحدود مع ليبيا وهي في إعصار الحرب والفتن؟ ولماذا لم تغلق تونس حدودها في سنوات الإرهاب الذي عاشته الجزائر في العشرية الدموية (1990-2000)؟

المستقبل أسبق من الماضي

بين ألمانيا وفرنسا، قامت حرب دموية لا نظير لها، واحتلت ألمانيا النازية باريس، وخربت مدن وقرى وزُهِقت الأرواح بالملايين، ولكن بمجرد أن طويت الحرب، تمكن البلدان وفي زمن قياسي من إعادة بناء الثقة السياسية، وبناء شراكة مستقبلية، وأسّسا معاً حلماً جديداً على أنقاض كابوس الحرب. وشيئاً فشيئاً وفي أقل من خمسين سنة، تأسست الوحدة الكاملة. هذه هي الأنظمة السياسية التي تبحث لشعوبها عن الخير والرفاهية والعيش الكريم.

بين شعبَي الجزائر والمغرب، أشياء كثيرة مشتركة منها ما يعود إلى الماضي ومنها ما هو في الحاضر، ومنها ما هو في المنظور المستقبلي. لهما أشياء كثيرة متشابهة وأشياء أخرى متكاملة، في الاقتصاد والثقافة والفلاحة والسياحة، لكن السياسة لم تتمكن من تجاوز هذه العقبة.

إذا كانت بين الجزائر والمغرب حرب سميت وقتها بحرب الرمال، التي اندلعت عشية استقلال الجزائر على الحدود الجنوبية الغربية بين البلدين في منطقة تندوف، حدث ذلك في أكتوبر (تشرين الأول) 1963، فإن حروب الحدود هي حروب ليست جديدة بين البلدان في العالم، وقد تم تجاوزها على المستوى الرسمي منذ عهد الرئيس هواري بومدين والملك الحسن الثاني.

لا أحد يمكنه أن ينكر ما مثله المغرب الشقيق كقاعدة خلفية ولوجيستية لثورة التحرير الجزائرية، ولا أحد ينكر كيف كان المغرب مأوى لكثير من قادة الثورة وللآلاف من المهجّرين من سكان الحدود أيام الاستعمار.

كان الشعب المغربي خصوصاً في المدن الحدودية مثل وجدة وبركان والسعيدية وأحفير والناظور وأنقاد وجرادة وحتى تازة… ومثله الشعب الجزائري على الجهة الأخرى في مغنية وباب العسة وبورصاي ندرومة وسبدو صبرة وتلمسان… مع كل احتفال وطني مغربي أو جزائري يحتفلون معا ويرفعون على سطوح بيوتهم أو في الشوارع العلمين، علم الجزائر وعلم المغرب جنباً إلى جنب. كانت هذه عادة احتفالية شعبية وعفوية تعكس الاندماج والتقارب بل التلاحم بين الشعبين الشقيقين.

عندما نسترجع الماضي المضيء المشترك بين الشعبين الشقيقين، فإن نية صناعة حلم جميل على الطريقة الفرنسية- الألمانية تفرض نفسها. يكفي أن نفكر في ما هو إيجابي في هذا الماضي، وأن نطوره وندفع به إلى التعدد، وأن نعمل على توطينه في الأجيال الجديدة التي لا يهمها سوى العيش الكريم وتقاسم الأفراح والخيرات.

هل خرج قطار المثقفين عن السكة؟

حين الرجوع إلى تاريخ المثقفين الجزائريين والمغاربة ومسيرتهم، سندرك وبعفوية كبيرة كيف انعكس هذا التمازج، وهذا العمل المشترك، وكيف تجلى الحلم المشترك بين النخب كبيراً وواضحاً، سجلته مجموعة من الأعمال الإبداعية الأدبية والسينمائية والمسرحية والموسيقية.

كان القطار ينطلق من وهران إلى وجدة، وكانت الحياة مستمرة ومتواصلة أكثر من الحدود التي اسمها يحمل معناها “زوج بغال” (حدود البغلين)، وهي بالفعل حدود “البغلين”، بغلَي السياسة! حيث يحرم المواطن من هذه الجهة أو من تلك من الانتقال بحرية، في زمن أصبحت فيه الحدود الجغرافية كذبة كبرى.

في رواية “نوم العادل-Le sommeil du juste ” لمولود معمري (1917-1989) المنشورة في العام 1955، والتي تتناول الجزائر أيام الحرب العالمية الثانية وبعدها، يقدم لنا الكاتب شخصية سليمان، وهو المثقف المسيّس والوطني، وهو عضو في حزب الشعب الجزائري، ينتقل إلى المغرب لأنه يشعر بأنه مُلاحق من قبل الاستعمار الفرنسي. وفي شخصية سليمان بعض من ملامح السيرة الذاتية للكاتب نفسه، فمولود معمري لم يجد ملاذاً له سوى في المغرب بعدما أدرك ملاحقة الاستعمار له، وقد درس في هذا البلد الذي كان قد سبقه إليه عمه الذي كان أحد الشخصيات المحترمة في المجتمع المغربي.

وقد روى لي الفيلسوف والأديب محمد عزيز لحبابي، أنه التقى مولود معمري حين جاء إلى المغرب بداية الخمسينيات في مدينة فاس، وأنهما منذ اللقاء الأول الذي كان مغاربياً وأدبياً بامتياز، قد فكرا في تأسيس اتحاد الكتاب المغاربيين، بل إنهما وضعا أيضاً تصوراً لمنبر إعلامي أدبي لهذا الاتحاد، وكانا قد اختارا اسم “آفاق” كعنوان لمجلة اتحاد الكتاب المغاربيين، إلا أن الزمن سيمر وستطحن السياسة والصراعات بين البلدين هذا الحلم، وسيتبنى اتحاد كتاب المغرب “آفاق” كاسم لمجلته الخاصة.

حين يتحدث مولود معمري ومحمد عزيز لحبابي عن مشروع اتحاد الكتاب المغاربيين، وفي تاريخ متقدم، فهذا يدل على أن النخب كان لها تصورها المشترك لبناء حياة ثقافية مستقبلية لمواجهة ما قد يأتي، وأن التكتل الثقافي هو الطريق السليم والصحيح لأي تكتل سياسي أو اقتصادي، فلا تنمية صلبة من دون جذور في الثقافة. إن ما يجمع بين الشعبين الشقيقين الجزائري والمغربي في باب الثقافة أكثر مما يفرقهم، فعناصر الثقافة في البلدين متشابهة ومتقاطعة ومتكاملة، فالثقافة الأمازيغية هي المشترك الأكبر بين شعبي البلدين، حيث الغالبية الساكنة من الأمازيغ، واللغة العربية وتراثها متجذرة أيضاً، واللغة الفرنسية غنيمة الحرب حاضرة في البلدين، كما أن الدين الإسلامي دين سائد بين مواطني البلدين، كما يمثل الحضور التاريخي لليهود منذ قرون في كل من المغرب والجزائر وتونس وزناً معتبراً في الاقتصاد والثقافة والسياحة وفي الذكاء المغاربي المشترك.

في رواية “الخبز الحافي” لمحمد شكري (1935- 2003) (صدرت مترجمة إلى الفرنسية من قبل الطاهر بن جلون العام 1980 قبل صدورها بالعربية لغتها الأصلية)، وهي النص السردي الأتوبيوغرافي، يعود محمد شكري في هذه الرواية إلى الحديث عن العلاقة الجزائرية المغربية، من خلال تتبع طبقة المهمشين، فعلى لسان الشاب الذي ما هو إلا محمد شكري نفسه، سيعرض لنا لوحة كبيرة وعميقة ومؤثرة عن حياة الطبقة المسحوقة من أبناء المغرب الذين “يُشَرِّقون” كل صيف نحو الغرب الجزائري، يقيمون بشكل موسمي أساساً في القطاع الوهراني، وخصوصاً منطقة عين تموشنت وحاسي الغلة وريو صالادو (المالح)، كانت رحلة “التشريق” أي الذهاب شرقاً في موسم قطف العنب كعمال زراعيين موسميين، قطف عنب المائدة وعنب النبيذ، فيعود بعضهم ويستقر البعض الآخر بشكل نهائي، ولذا سنجد في منطقتَي عين تموشنت وبني صاف جالية مغربية كبيرة غالبيتها من الريف، قد استقرت هناك منذ الحرب العالمية الثانية وتجنّست لاحقاً، وقد اندمجت في المجتمع الجزائري وأصبحت جزءاً لا يتجزأ منه. وإذا كانت في رواية “الخبز الحافي” لمحمد شكري وقفة عند هذه العلاقة ما بين الشعبين اللذين كانا يعيشان تحت نير الاستعمار نفسه، من خلال تصوير مثير لحياة المعمّرين الزراعيين الفرنسيين في الجزائر، فإننا سنجد أيضاً في ثلاثية محمد ديب (الدار الكبيرة، النول، الحريق) تصويراً للعلاقة اليومية بين مواطني تلمسان وساكنة وجدة من خلال شخصية لالة “عيني” والنساء الأخريات اللواتي يمارسنَ عملية التهريب.

كما أننا سنجد في رواية “أعالي المدينة “لإيمانويل روبلس المنشورة عام 1948 والتي حصلت على جائزة فيمينا Femina في العام نفسه، نصاً يصور وبشكل عال وصادق، مشاركة الجزائريين من الأهالي في الحرب العالمية الثانية ضد النازية، ونظراً لملاحقة المناضلين من الأهالي ومن الأوروبيين على حد سواء من قبل أجهزة فيشي، كان بعضهم يجد في مدينة وجدة المغربية ملاذاً آمناً من عيون بوليس حكومة فيشي الفاشية، وهو ما يؤكد أن هناك ذاكرة نضالية مشتركة وعابرة للحدود!

أول مجلة ثقافية في بداية استقلال الجزائر هي “المعرفة” التي كانت تصدر عن وزارة الشؤون الدينية، كان يتم طبعها في مطبعة الدار البيضاء في المغرب، حيث يتم تصفيف مادة العدد شهرياً، يركب المشرفون عليها القطار من الجزائر العاصمة إلى الدار البيضاء في المغرب، يتم سحب العدد في المطبعة ويعود المشرفون عليه بالنسخ المطلوبة ليتم في اليوم التالي توزيعها بنقاط البيع في المدن الجزائرية!

كما مثلت مجلة “أنفاس” التي أسسها الأديب والمثقف المناضل عبد اللطيف اللعبي صوتاً مغاربياً بامتياز، فضاء للكتاب المغاربيين باللغة الفرنسية لتصدر لاحقاً باللغة العربية أيضاً، وهي المجلة التي اكتشفت ورافقت كثيراً من الأقلام الجزائرية التي أصبح لها لاحقاً شأن أدبي كبير في الجزائر وفي العالم الأدبي الفرانكفوني.

وعلى المستوى الفني، لعل ظاهرة أغنية الراي، ورقصة العلاوي المعروفتين، تمثلان الممارسة الفنية التي تحضر منذ عقود وتتجدد من جيل إلى آخر في رقعة جغرافية مشتركة ما بين الجزائر والمغرب، ما بين وهران وبلعباس وتلمسان ووجدة وتازة والناظور والراشدية وبشار. وبقدر ما تمثل متعة مشتركة فهي أيضاً إرث ثقافي مشترك بين مواطني هذه المنطقة. فهذا النوع من الفن لا يعترف بالحدود ولا بالجمارك، فسكان البلدين هم الحاضنة الحقيقية له، وحتى إن كان بعض المؤرخين يقولون بمدينة سيدي بلعباس كمسقط رأس أغنية الراي، إلا أنها خرجت عن ذلك اليوم وذهبت بعيداً في البلدين وخارجهما أيضاً، ولذا نجد كثيراً من فناني الراي من الجزائريين من الجيل الجديد يعيشون في المغرب ولا يشعرون بالغربة الفنية كالشاب خالد وبلال ورضا الطلياني وغيرهم.

كما أن المدارس الموسيقية الأندلسية، تمثل لحمة حقيقية أخرى في توثيق العلاقة الروحية بين المغرب والجزائر، فالمدرسة التلمسانية أو الندرومية هي أخت المدرسة الفاسية أو المكناسية أو الوجدية، فالطبوع (المقامات) التي تعزف والنصوص التي تغنى هي الأخرى عابرة للحدود وجامعة للقلوب والأحلام.

اليوم، ونحن أمام حدود برية مغلقة بين الجزائر والمغرب منذ 1994 نتساءل بقوة: أما حان للمثقفين بخاصة، ومع هذا التغيير الجوهري الذي تعرفه الجزائر من أجل طرح جديد لعلاقة جديدة وجادة ومثمرة بين البلدين وذلك بالدعوة إلى تجمع للمثقفين والفنانين في مدينة ما وإصدار بيان يطالب بفتح الحدود البرية وترك الشعبين يعيشان في احترام وتآخ؟

متى سيرى المواطن المغربي أو الجزائري الحدود بين البلدين مفتوحة والشاحنات المحملة بالبضائع النافعة تتحرك في الاتجاهين لصالح الشعبين، تتحرك بسلام وحرية وحلم؟

إنها الساعة المناسبة مقبلة وذلك ليس ببعيد.

اندبندت