نفذت إيران تهديداتها ورفعت مستوى تخصيب اليورانيوم في منشأة نطنز، من 3.67 في المئة الى مستوى 4.5 في المئة، في المرحلة الاولى من الخطوة الثانية لتقليص التزاماتها بنود الاتفاق النووي الذي سبق ان وقعته مع مجموعة دول 5+1 في يوليو (تموز) عام 2015، واعطت الدول الاوروبية المشاركة في الاتفاق مهلة 60 يوما جديدة، على غرار الخطوة الاولى لاتخاذ خطوات عملية فيما يتعلق بمطالبها حول بيع النفط والحصول على العائدات المالية، قبل الانتقال الى المرحلة الثالثة من مسار تقليص هذه الالتزامات.
بهذه الخطوة، وعلى الرغم من كل المناشدات الدولية الصديقة وغير الصديقة بوقف الخطوات التصعيدية، فان آلية العمل الايرانية في تقليص التزاماتها، اخذت مسارها التصعيدي الذي لجأ اليه النظام، وبات من الصعب عليه التراجع عنه من دون الحصول على مكاسب، والا فانه سيواجه ازمة داخلية قد تطيح كل ما حققه حتى الان من الوقوف بوجه الضغوط الاميركية وعدم التجاوب الاوروبي مع الزامات الاتفاق النووي.
وهذا يعني أن إيران باتت ملزمة بهذه الخطوات التصعيدية بحيث تستمر في السير على حد الهاوية. لكنها ستبدي حرصاً كبيرا على أن لا تصل الامور الى مرحلة “اللاعودة” التي قد تستدعي إجماعاً دولياً ضد خطواتها هذه التي تؤكد انها مازالت تحت سقف بنود الاتفاق النووي.
الخطوات
ومن المتوقع ان ان تشمل الاجراءات الايرانية في إطار الخطوة الثانية، رفع مستوى التخصيب الى مستوى 20 في المئة، في حال برزت لدى طهران الحاجة إلى هذه الخطوة، أو الاحتفاظ بها إلى الخطوة الثالثة، بانتظار ما ستسفر التحركات الدولية التي تقودها في هذه المرحلة الرئاسة الفرنسية. الا انها وكما يستشف من تصريحات المسؤولين الايرانيين ان النظام قد وضع آلية للاجراءات التالية في حال لم يحصل على المطالب التي وضعها مقابل وقف تقليص التزاماته. وقد تتضمن:
اعادة تفعيل اجهزة الطرد المركزي البالغة نحو 20 ألف جهاز بعد أن خفَّضها الاتفاق إلى نحو 5 آلاف يحق لها استخدامها بناء على الاتفاق النووي.
تشغيل اجهزة طرد مركزي متقدمة “IR-2 ” و “IR-2M” التي تسمح بتسريع عملية التخصيب للوصول إلى مستويات اعلى بأسرع وقت.
اعادة تشغيل منشآة “فردو” التي تسمح برفع مستوى التخصيب الى مستويات اعلى من 20 في المئة.
اعادة تأهيل مفاعل اراك للماء الثقيل وتطويره الذي يسمح بانتاج البلوتونيوم.
هذه الاجراءات مجتمعة، وان كانت طهران، بحسب تأكيدها، لا تريد ولا تنوي الانتقال الى مرحلة انتاج السلاح النووي، الا انها تضعها على طريق هذا السلاح، خصوصا في حال استطاعت تنشيط العمل في عملية انتاج البلوتونيوم في مفاعل اراك الذي يشكل الهاجس الرئيس لدى الدول الغربية لما يوفره من إمكان تسريع الانتقال الى مرحلة “التفجير النووي”، من دون القيام بذلك، لان النظام في طهران يدرك جيدا بان اي عملية تفجير نووي قد يقوم بها، ستكون بمثابة الدافع لتشكيل اجماع دولي على الخيار العسكري للتعامل مع الأزمة الإيرانية. وهي رسائل واضحة سبق ان سمعتها طهران من كثير من القوى الدولية، خصوصاً الولايات المتحدة على مدى عقدين من الزمن. وتدرك ايضا ان الحليف الروسي لن يكون الى جانبها، لأن انتقال إيران الى دولة نووية عسكرية لن يكون في صالحه، وتالياً لن يكون الروسي عائقاً يعمل على تعطيل اي تهديد عسكري قد تواجهه طهران. لذلك فان الانتقال الإيراني إلى هذا الخيار قد يكون الورقة الأخيرة التي تشكل “طلاقاً” إيرانيا مع المجتمع الدولي، وبمثابة إعلان انسحاب النظام من الاتفاق النووي.
في المقابل، وعلى الرغم من أن الإجراءات الإيرانية، دفعت الدول الأوروبية، وتحديدا فرنسا، الى التحرك من اجل تحقيق خرق يضمن لطرفي الازمة الاميركي والايراني الوصول الى ما يريدانه بالحد الادنى، فان الشارع الداخلي لم يخف انقسامه حول هذه الاجراءات. اذ ما زال التيار المتشدد الرافض للاتفاق النووي مصراً على دفع الحكومة إلى إعلان عن انسحابها من هذا الاتفاق، والاعتراف بالخطأ الذي ارتكبته منذ عام 2015 والذي فوّت على ايران فرصة التقدم في البرنامج النووي. في حين يعتقد التيار العقلاني من محافظين واصلاحيين ان تمسك إيران بالبقاء في الاتفاق، واتخاذ هذه الخطوات التي تعتبر ترجمة دقيقة وعقلانية للاستراتيجية التي وضعها المجلس الاعلى للامن القومي بتوجيه من مرشد النظام، اسهم في نقل الكرة من الملعب الايراني الى ملعب الدول المشاركة في الاتفاق والتي لم تلتزم ما تعهدت به. وتتهم هذه الاوساط الادارة الاميركية بانها سعت من وراء الحصار الاقتصادي الذي فرضته على ايران الى ارباك قيادة النظام ودفعها لاتخاذ خطوات انفعالية تنتهي باعلان الانسحاب من الاتفاق وبالتالي تقدم لواشنطن الذريعة التي تريدها، الا ان الحنكة التي ادار النظام فيها هذه الازمة واستيعابه لهذه الاجراءات والتصعيد العسكري والاقتصادي، اسقط في يد الطرف الاميركي ومعه الدول الاوروبية التي فضلت الوقوف بما يشبه الحياد بانتظار الصرخة الايرانية، ما وضع واشنطن وهذه الدول في دائرة المواقف الانفعالية وردات الفعل، والسعي من اجل وقف الاجراءات الايرانية التي قد تشكل حرجا كبيرا لهذه القوى التي لا تريد الذهاب الى الخيار العسكري.
الوسيط الفرنسي
لا شك ان الخطوات الايرانية قد دفعت العواصم المعنية الى التحرك السريع من اجل وضع الية لحل هذه الازمة المتصاعدة، ومن اجل كبح المسار الإيراني التصعيدي. وهي تأتي متزامنة مع رسالة ايرانية واضحة باستعدادها للعودة عن هذه الخطوات في حال قامت هذه العواصم بما تعهدت به ووفرت لايران آلية اقتصادية تضمن لها بيع النفط والحصول على العائدات المالية من عملياتها التجارية من خارج الضغوط الاميركية.
وفي الترجمة الاولية للتحرك الذي قاده الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون والاتصال الهاتفي المطول الذي اجراه مع نظيره الايراني حسن روحاني، يمكن التوقف عند نقطة اساسية التي تضمنت اشارة الى عودة التفاوض بين ايران ومجموعة 5+1 اي بمشاركة الطرف الاميركي، وان تكون هذه المفاوضات على مستوى وزراء الخارجية لهذه الدول. الا ان طهران وفي محاولة لاظهار تمسكها بمطالبها من الترويكا الاوروبية، وبما يشبه الرد على الموقف الذي اعلنه روحاني في حديثه مع ماكرون حول جلسة 5+1، اكد المعاون السياسي لوزير الخارجية وكبير المفاوضين في الملف النووي عباس عراقجي ان ايران على استعداد للجلوس مع مجموعة 4+1 للتباحث في الاجراءات الايرانية والواجبات الاوروبية، مستبعدا الجانب الاميركي. ما يعني أن مهمة المبعوث الفرنسي إيمانويل بون، مستشار الرئيس السياسي الخاص الذي من المفترض ان يصل الى طهران في الساعات القادمة، قد تتركز على التفاهم مع الجانب الايراني على جدول اعمال هذه الجلسة التفاوضية، وآلية المشاركة الاميركية فيها، ومن المتوقع ان تطرح طهران آلية سبق ان ابلغتها للجانب الاوروبي بإمكان المشاركة الاميركية بصفة “مستمع” في حال اصرت واشنطن على رفض العودة إلى الاتفاق النووي، وإلغاء العقوبات التي فرضتها على ايران.
موقف واشنطن
امام هذه التطورات وما ينتظر ان تسفر عنه التحركات الاوروبية التي يقودها الرئيس الفرنسي، هل يمكن القول ان الاجراءات الايرانية في تقليص التزاماتها بنود الاتفاق النووي قد تدفع الادارة الأميركية إلى تليين مواقفها، حتى لا يقال “تقديم تنازلات”، والتخلي عن المواقف التصعيدية التي اعتمدتها خلال المرحلة السابقة. والاكتفاء في “استرضاء” إيران بالعودة عن اجراءاتها ومنعها من السير باتجاه الوصول الى تخصيب اليورانيوم بدرجات عالية تسمح بإمكان التصنيع العسكري؟ وهل ستكون مواقف دول المنطقة وامنها واستقرارها كبش فداء لمصالح الدول الكبرى التي دأبت على عقد صفقات مع النظام الايراني من دون الاخذ بمصالح حلفائها في المنطقة؟ اسئلة قد يكون من الصعب الاجابة عليها حالياً بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الاميركية التي تتبنى سياسات مربكة ومفاجئة لجميع الاطراف.
انبدندت