طهران وواشنطن… صراع في طريق صعب وخطر ومسدود

طهران وواشنطن… صراع في طريق صعب وخطر ومسدود

المعادلة واحدة في الاتفاق والخلاف. وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف يعترف بأنّ الاتفاق النووي بني على “اللاثقة المتبادلة”. وكل الذين يقومون بأدوار الوساطة بين أميركا وإيران يعرفون أن “اللاثقة المتبادلة” هي من العوامل المهمة في الخلاف. فالملف النووي الإيراني بدأ أيام الشاه وأخذ حجمه الكبير في الجمهورية الإسلامية. والتفاوض حوله دام سنوات طويلة، وانقطع ثمّ جرت معاودته وتمّ التوصل إلى الاتفاق في مثل هذه الأيام قبل أربع سنوات. وذات يوم قال الأمير تركي الفيصل لمسؤول أميركي كبير: “لدينا كابوسان: أولهما أن تصبح إيران نووية. وثانيهما أن تشنّوا حرباً على إيران لمنعها من أن تصبح نووية”. والسبب في الحالين هو الانعكاسات الخطيرة على المنطقة. فلا الصراع بين واشنطن وطهران هو مجرّد صراع أميركي- إيراني. ولا هو على الملف النووي وحده. ولا التوصل إلى الاتفاق بين مجموعة 5+ 1 وإيران خلا من أخطاء في بنية الاتفاق وخارجه، وبينها التفاوض في معزل عن دول المنطقة ولاسيما دول الخليج.

وليس أصعب من الحرب سوى التفاوض على اتفاق جديد. فالطرفان الأميركي والإيراني يؤكّدان يومياً أنهما لا يريدان الذهاب إلى الحرب. لكن كلاً منهما يطلب في أي تفاوض الحصول على ثمار الانتصار في حرب. إدارة الرئيس دونالد ترامب تريد منع إيران من أن تصبح نووية بشكل نهائي، وضرب نفوذها الإقليمي، والتخلّي عن ميليشياتها في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، وإخراجها من سوريا، والتوقف عن تطوير الصواريخ البالستية. وإدارة الولي الفقيه ترفض في المبدأ التفاوض مع “الشيطان الأكبر”، ثم تطلب رفع العقوبات، وعودة أميركا إلى الاتفاق النووي، والدعم الأوروبي الكامل لها، والتسليم بأنّ نفوذها في المنطقة وتطوير صواريخها البالستية من ثوابت الأمن القومي الإيراني.

وهذه مسائل حيوية لا مجال لتسويات فيها ولا لتحقيق أي طرف ما يريده في “لعبة صفرية”. فما يراه وليم بيرنز نائب وزير الخارجية الأميركي أيام أوباما وأحد كبار المفاوضين مع إيران على الاتفاق النووي هو أنّ ديبلوماسية الإكراه الأميركية كلّها “إكراه بلا ديبلوماسية”، وإنّ المتطرّفين في واشنطن وطهران “يتسلّقون سلّماً صاعداً لأنّ لديهم منفعة مشتركة”. والزمن تبدّل منذ حقّقت إيران أهدافاً مهمة عبر السياسة التي مختصرها تعبير لشاعر فارسي قديم “اضرب رأس الأفعى بيد عدوك”. إذ تخلّصت من عدوين هما صدام حسين وطالبان على يد عدوّها الأميركي. والظروف تبدّلت في لعبة الانتظار. كانت إيران تراهن دائماً على ما تسمّيه “الصبر الإستراتيجي”. أما اليوم، فإنّ أميركا المشهورة بقلّة الصبر تمارس “الصبر الإستراتيجي”.

ذلك أنّ أميركا ليست محشورة ولا مستعجلة، فهي بدأت حربها الاقتصادية عبر العقوبات المتصاعدة على إيران. ولديها “كثير من الوقت” كما يقول دونالد ترمب. ولا يبدل في الأمر أن يحاول محمد جواد ظريف “تحييد” ترمب بالقول إنّ جون بولتون وبنيامين نتنياهو قتلا اتفاقاً بين 3 دول وإيران عام 2005، وهما استدرجا ترمب لقتل الاتفاق الحالي”. فالعقوبات الأميركية تخنق الاقتصاد الإيراني في مجالات عدّة بينها الاقتراب من “تصفير” تصدير النفط. وطهران محشورة ومضطرة للرد. وهي ردّت حتى الآن بوسائل محسوبة مثل زرع الألغام في الناقلات وإسقاط طائرة أميركية بلا طيّار. بحيث لا تضطر واشنطن للرد. ولا أحد يعرف إلى أي حدّ يمكن الانضباط ضمن خطوط حمر ثابتة ومتغيّرة.

لكن طهران بدأت بالتدرّج في مسار آخر هو التحلّل من بعض الالتزامات المنصوص عليها في الاتفاق النووي: رفع نسبة تخصيب اليورانيوم. تخزين كمية من اليورانيوم أكبر من الكمية المسموح بها والتلويح بإعادة تفعيل مفاعل آراك والماء الثقيل. وهذا مسار يصعب الذهاب فيه إلى النهاية من دون التعرّض لأخطار هائلة. فهو يؤسّس لمشكلة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. فضلاً عن أزمة مع فرنسا وبريطانيا وألمانيا التي وقّعت الاتفاق النووي ومعها الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين. ومن الوهم، مهما يكن ابتزاز أوروبا ممكناً، أن تراهن طهران على دفع أوروبا إلى “تحدّي أميركا”. مفهوم أنّ فرنسا التي بادرت إلى التوسط، لوقف التصعيد، حاولت تخفيف التحلّل الإيراني من الالتزامات بقول وزير الخارجية جان إيف لودريان أنّ ما حدث هو “تجاوز خفيف” على طريقة “نصف حبلى”. لكن المفهوم أيضاً أنّ الثلاثي الأوروبي محكوم، إذا استمرّ وازداد التجاوز الإيراني، باللجوء إلى “آلية فضّ النزاعات” المنصوص عليها في الاتفاق النووي. وهذا طريق يقود إلى مجلس الأمن، ثم إلى تطبيق مادة في الاتفاق تسمح للمجلس بإعادة العقوبات الدولية على إيران من دون حاجة إلى قرار جديد قد يصطدم بفيتو روسي وإيراني.

يقول مثل فارسي: “دعِ الصخرة تصل إلى قاع البئر، ثمّ فكّر كيف تخرجها”. والصخرة الأميركية وصلت إلى قاع البئر الإيرانية. لكن التفكير في إخراجها لا يزال يصطدم بحسابات معقدة ورهانات على “انتصارات إلهية”.

اندبندت