قانون انتخابات مجالس المحافظات وأزمة الدولة

قانون انتخابات مجالس المحافظات وأزمة الدولة

تنتهك فكرة الدولة في العراق من خلال التعامل الفوضوي مع فكرة القانون، ليتكرر، متواترا ، مشهد أزمة الدولة العراقية التي لا ترى في القانون سوى سطر يكتبه القائمون على السلطة، ويعدلونه، ويمسحونه متى شاؤوا ذلك. لقد كانت اجواء تعديل قانون انتخابات مجالس المحافظات غير المنتظمة في إقليم في 22 تموز/ يوليو 2019، وما سبقها من حوارات، شبيهة تماما باجواء وحوارات إقرار أي قانون آخر للانتخابات في العراق، ففي جميع هذه الحالات تم تكريس فكرة كون القانون في العراق مجرد إتفاق سياسي، زبائني، يعكس علاقات القوة في مجلس النواب لحظة إقراره، ويعكس مصالح الفاعلين السياسيين الأقوى داخل المجلس، في ظل تواطؤ جماعي على عدم انتاج انتخابات نزيهة وشفافة. وإذا كان البعض لا يزال يجادل بأن عدم النضج السياسي والقانوني الذي حكم لحظة كتابة الدستور عام 2005 قد تم تجاوزه، فإن الطريقة التي تمت بها صياغة وتمرير قانون تعديل انتخابات مجالس المحافظات الأخير يؤكد أننا ما زلنا نراوح في لحظة عدم النضج نفسها.
لقد جرت حتى اللحظة، ثلاثة انتخابات لمجالس المحافظات في الأعوام 2005 و 2009 و 2013 وفق قوانين مختلفة في كل مرة! ولكن البدعة الجديدة التي جاء بها مجلس النواب الحالي هو تعديل قانون انتخابات مجالس المحافظات الذي تم تشريعه في العام 2018 من دون ان تجري أية انتخابات بموجبه أصلا! فقد صدر قانون انتخابات مجالس المحافظات والأقضية رقم 12 لعام 2018 في نهاية ولاية مجلس النواب السابق، ودخل حيز النفاذ في 22 أيار/ مايو 2018 بعد نشره في الجريدة الرسمية، ولا يمكن فهم أسباب هذا التعديل إلا بسبب تغير علاقات القوة داخل مجلس النواب، وبالتالي تغير مصالح الفاعلين السياسيين فيه!
إن مراجعة التعديل الأخير على قانون انتخابات مجالس المحافظات، يكشف عن مسألتين أساسيتين، الأولى تعديل المعادلة المستخدمة لتوزيع المقاعد على الكتل الفائزة لتكون ( 1.9ـ 3 ـ 5 الخ) بدلا من (1.7ـ 3 ـ 5 الخ) التي اعتمدها قانون عام 2018، والمسألة الثانية هي عدم الاعتماد على البطاقة الالكترونية طويلة الأمد (البايومترية) في حالة عدم وصول نسبة الحاصلين عليها في المحافظة إلى 75٪ بدلا عن اشتراط هذه البطاقة بالنسبة للناخب. ولا يمكن فهم هذين التعديلين إلا اعتمادا على ما جرى في انتخابات مجلس النواب في العام 2018!
فثمة قوى أساسية في مجلس النواب اليوم تعتقد ان من مصلحتها استبعاد الكيانات الصغيرة من أية فرصة للمنافسة، فقامت برفع قيمة المعادلة التي تحكم توزيع المقاعد لتكون 1.9 بدلا من 1.7 التي اعتمدت في قانون عام 2018.

لم يكن القانون في العراق قاعدة عامة مجردة، كما يعرف القانون عادة، ولكنه تحول بعد العام 2003 إلى مجرد أداة سياسية، يستخدمها الفاعل السياسي الأقوى كما يشاء، ومتى يشاء، وهذا ما يعكسه حجم التعديلات السريعة

إن مسألة توزيع المقاعد ليست عملية رياضية مجردة، بل هي النتاج النهائي للنظام الانتخابي، والترجمة الحقيقية لخيارات جمهور الناخبين لمقاعد تمثيلية. ومن ثم فان اختيار المعادلة المعتمدة لتوزيع المقاعد لها تأثير كبير على نتائج الانتخابات ككل، و أي تغيير لهذه المعادلة كان يجب أن يحظى بأهمية استثنائية من المشرع العراقي، وهو ما لم يحدث. لقد تم في انتخابات مجالس المحافظات لعام 2013 اعتماد ما يعرف بصيغة سان لاغي المعدلة؛ وتتلخص هذه الطريقة القائمة على مبدأ «المتوسط الأعلى»، في تقسيم مجموع الأصوات التي يحصل عليها الكيان السياسي على الأرقام الفردية المتسلسلة (1.4، 3، 5، 7 الخ) وتخصص المقاعد للكيانات التي حصلت على أعلى نتيجة قسمة في كل مرحلة من مراحل القسمة. ولكن مجلس النواب العراقي رفع الرقم الاول من 1.4 إلى 1.7 في قانون عام 2018، ثم عاد ليرفع الرقم مرة أخرى إلى 1.9 والذي يعني عمليا رفع قيمة المقعد الاول الذي يمكن ان يحصل عليه أي كيان سياسي من اجل منع الكيانات الصغيرة من الحصول على مقاعد. وكان من الواضح ان الحملة المضادة، على اكثر من مستوى، التي ظهرت في العام 2018 ضد نسبة 1.9 المقترحة حينها هي التي أجبرت مجلس النواب على تخفيضها إلى 1.7، وان عدم ظهور هكذا حملة في العام 2019 هي التي اتاحت لمجلس النواب العودة إلى هذه النسبة!
المسألة الثانية التي كشف عنها التعديل الأخير هو التخلي عن شرط البطاقة البايومترية التي اشترطها قانون عام 2018. فقد وجدت بعض القوى المهيمنة في مجلس النواب ان اشتراط البطاقة البايومترية سيحرمها من قدرتها على التحكم بنتائج الانتخابات، عبر التزوير المنهجي، وعبر تحكمها بالمفوضية العليا المستقلة للانتخابات، لهذا عمدت إلى وضع نسبة غير منطقية لكي تستغل البطاقات الانتخابية غير البايومترية، والتي أثبتت فشلها الكامل في انتخابات عام 2014، عبر عمليات التزوير واسعة النطاق التي جرت حينها. فتبعا للمعلومات التي أصدرتها المفوضية العليا المستقلة للانتخابات بالنسبة لنسب توزيع البطاقة البايومترية تكشف ان من شبه المستحيل ان تصل محافظة إلى هكذا نسبة، ربما باستثناء محافظة ديالى!
الملاحظة المهمة الأخرى، هي ان القانون اخفق تماما في التعاطي مع مسألة عدد مقاعد مجالس المحافظات. فقد عمد قانون التعديل الثالث لقانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم رقم 21 لعام 2008 إلى تخفيض عدد أعضاء مجالس المحافظات إلى نصف العدد تقريبا مما كان عليه الامر في انتخابات العام 2013، وبمسوغات واهية، من دون الانتباه إلى تأثيرات هذا التخفيض على قدرة هذه المجالس على القيام بوظائفها المناطة بها في نظام لا مركزي مفترض! وقد التزم التعديل الأخير لقانون انتخابات مجالس المحافظات بالنسب نفسها تقريبا، مع رفع شرط الحد الأعلى الذي وضعه قانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم (وهو 35 مقعدا)، وهو ما سيسمح لمحافظة بغداد وحدها الإفادة منه.
الحسنة الوحيدة التي جاء بها التعديل الأخير للقانون، هو تغيير شرطين من شروط المرشح التي اعتمدها قانون عام 2018، الأول فيما يتعلق بالعمر، فقد خفض التعديل شرط العمر من 30 إلى 28 سنة، والثاني هو تغيير شرط الشهادة التي كانت البكالوريوس، فقد أعطى التعديل نسبة 20٪ لحاملي الشهادة الإعدادية. ونعتقد أن هذين التغييرين هما الوحيدين المنطقيين، فتخفيض العمر سيعطي فرصة أكبر للشباب للإنخراط في الممارسة السياسية، كما أن إتاحة الفرصة لعدم الحاصلين على شهادة البكالوريوس يوسع من تكافؤ الفرص لشريحة كبيرة من غير الحاصلين على هذه الشهادة. على الرغم من قناعتي الشخصية بأن هذين التعديلين لا علاقة لهما بالأسباب التي أقدمها هنا، وأن الامر يرتبط بارتجالات وأمزجة ومصالح قابلة للتغيير مع أي تعديل جديد للقانون!
لم يكن القانون في العراق قاعدة عامة مجردة، كما يعرف القانون عادة، ولكنه تحول بعد العام 2003 إلى مجرد أداة سياسية، يستخدمها الفاعل السياسي الأقوى كما يشاء، ومتى يشاء، وهذا ما يعكسه حجم التعديلات السريعة، والمتكررة، للكثير من القوانين، من بينها قوانين الانتخابات، سواء المحلية او البرلمانية. فضلا عن تشريع قوانين تنتهك صراحة أحكام الدستور نفسه! وعند أية محاولة لتوصيف وتعرية هذا الواقع، ينبري لك عضو مجلس نواب، كان طرفا في إقرار القانون الأول، وإقرار التعديل عليه! ليقول بكل صلافة ووقاحة أن أعضاء مجلس النواب هم الأكثر «علمية ووعيا ومعرفة وإلماما» فيما يتعلق بالتشريع وشروطه!

القدس العربي