برحيل الباجي قايد السبسي في يوم إعلان الجمهورية التي عاصر شتّى مراحلها ومنعطفاتها، تارة في السلطة وتارة في المعارضة، تدخل التجربة التونسية مرحلة اختبار جديد يتعلّق أولاً بكيفية اجتياز المرحلة الانتقالية من الآن حتى انتخاب رئيس جديد للبلاد بأقل ضرر ممكن، وبأفضل الشروط التي يمكن أن تكون متاحة للاحتكام مجدّداً لصناديق الاقتراع، كما أنّه اختبار يتعلّق ثانياً بالقدرة على الحفاظ على التفاهمات الواقعية التي أبرمها الإسلاميون والعلمانيون، بمعية شخصيات تجاوزت الحدود الفئوية ولغة الأحقاد والغلو من الطرفين، وفي طليعة تلك الشخصيات الباجي قايد السبسي، من جهة العلمانيين، والشيخ راشد الغنوشي من جهة الإسلاميين.
لا يعني ذلك أن تجربة السبسي في الحكم كانت مثالية لا تشوبها شائبة. لقد تخللتها نزعات استئثارية، وبرزت فيها شهوة توريثية إلى نجله حافظ السبسي، وعلى الرغم من أهمية انجاز تونس بعد الثورة لعملية كتابة دستور يتفق عليه العلمانيون والإسلاميون سواء بسواء ما زال التشكيك بين الفريقين قائماً، ولم تشتد تجربة التداول السلمي المؤسساتي على السلطة بما فيه الكفاية، كما أنّ توطيد الفصل بين السلطات لم ينجز تماماً بعد، وتبقى معضلة عدم تشكيل المحكمة الدستورية المنصوص عنها في الدستور، ولهذا الأمر عواقب التي يحاذر أن تكون وخيمة في فترة انتقالية كتلك التي بدأت عملياً مع تدهور صحة الرئيس السبسي نهاية الشهر الفائت، وصارت رسمية مع وفاته.
تمكّن تونس من اجتياز هذه المرحلة الانتقالية بنجاح مشروط بالقدرة على التفاهم بين الإسلاميين النهضويين والبورقيبيين العلمانيين على تقوية عقد الدستور والديمقراطية الذي صاغه السبسي والغنوشي وتحويله إلى منهج مستدام.
ويفترض ذلك قدرة متبادلة، إن من جانب الإسلاميين أو من جانب العلمانيين، على التصدي للمتطرفين على الجانبين، سواء الذين يرفضون انخراط الإسلام الحركي والمستنير في عقد الديمقراطية والدستور، أو الذين يرفضون المواءمة التي حققها السبسي بين مفهوم الدولة العلمانية وبين التعددية السياسية غير المصابة بـ«إرهاب الإسلام السياسي». هؤلاء الاستئصاليون، الذين ينقادون لـ«الهوى الأسدي» فيهم، ويعبّرون عن إعجابهم بالقمع الدموي من طرف النظام في سوريا لثورة السوريين يشكّلون خطراً حقيقياً على التجربة التونسية.
لا يلغي ذلك حاجة العقد الديمقراطي الجامع بين عقلاء العلمانيين ومستنيري الإسلاميين إلى المزيد من التوضيح وإلى مدى أكبر من التجارب، وقد حالت حدّة التجاذب حتى الآن دون استكمال قيام المحكمة الدستورية، وهو ما يعني بشكل واضح أنّ هناك خطوة أساسية لم تنجز بعد، بل هي خطوة شديدة الأهمية في هذه الفترة الانتقالية بالذات.
في فترة رئاسته، بدا حزب الرئيس، حزب «نداء تونس» كما لو أنّه محاولة لإحياء الحزب المهيمن على الدولة الذي كان في الأصل حزب الحبيب بورقيبة الذي عاد ومسخه زين العابدين بن علي إلى مجرّد جهاز تحت وصاية جهاز الأمن. مع رحيل الباجي قايد السبسي، على التجربة التونسية أن تثبت أن التعددية الحزبية تطلع إلى المستقبل وليس إلى استنساخ تجارب من الماضي، وأنّ الثنائية الحزبية بين العلمانيين والإسلاميين من الممكن أن تتحوّل إلى عنصر استقرار وحيوية للنموذج الديمقراطي، هذا بشرط أن يتمكّن الطرفان من لجم النزعات التفردية بالسلطة، والحيلولة دون قيام «حزب أحادي» جديد ولو كان بشكل غير مباشر.
ليس سهلاً أن يخلف رئيس بلغ من العمر 93 عاماً أحد الشباب غداً، بموجب الانتخابات. كما لم يكن سهلاً، أساساً، أن ينجح تسعينياً في رئاسة دولة جدّدت نفسها بثورة شعبية، شبابية أساساً. تونس اليوم أمام اختبارين في وقت واحد. تداول السلطة، وتعاقب الأجيال. هناك ما يكفي من دعائم وعناصر للنجاح أمام هذين التحديين، وهناك في المقابل مخاطر ونزعات فوقية وإلغائية لا يجب الاستخفاف بها. يبقى أن في تونس نعمة لا تقدّر بثمن: غياب «العسكريتاريا» التي تقف بالمرصاد لأي ربيع ديمقراطي في البلدان الأخرى، وتطيح بكل البراعم.
القدس العربي