في الوقت الذي ما زال فيه موضوع الإجراءات الجديدة المتشددة بشأن اللاجئين السوريين في تركيا يتفاعل في الرأي العام، التركي والسوري على السواء، صدر بيان عن اجتماع لمجلس الأمن القومي التركي، المنعقد في قصر الرئاسة في 30 تموز، ورد فيه «عزم الحكومة التركية على مواصلة تطهير كل العناصر الإرهابية، بما في ذلك المنتمون إلى حزب العمال الكردستاني/ حزب الاتحاد الديموقراطي، قوات حماية الشعب، وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وحركة فتح الله غولن الإرهابية، وبذل الجهود لإنشاء «كوريدور سلام» على طول الحدود الجنوبية». الاجتماع الذي استمر لأكثر من ست ساعات، ناقش عدداً من الأمور المطروحة على جدول أعماله، بينها قضية صفقة الصواريخ الروسية إس 400، وطائرات إف 35 الأمريكية، وموضوع التنقيب عن الغاز قرب شواطئ قبرص، وغيرها من موضوعات الساعة المصنفة كقضايا أمن قومي.
قبل البدء بقراءة قرارات «الأمن القومي»، وبخاصة تعبير «كوريدور السلام»، لا بد من الإشارة إلى ظاهرة لافتة: الليرة التركية تتحسن منذ بضعة أيام، على رغم تراكم عديد الاستحقاقات المتعلقة بمسائل الأمن القومي المذكورة أعلاه، إضافة إلى المشكلات السياسية الداخلية، والمؤشرات الاقتصادية المقلقة. لنتذكر تهديد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الشهير بـ«تدمير الاقتصاد التركي» إذا هاجمت القوات التركية حلفاء واشنطن من المقاتلين الكرد فيما وراء الحدود! وقد جدد ترامب التذكير بهذا الموضوع في مؤتمره الصحافي قبل مغادرته مدينة أوساكا اليابانية التي شارك فيها في قمة مجموعة العشرين، فقال إنه «باتصال هاتفي» مع الرئيس التركي أوقف هجوماً بمئة وخمسين ألف جندي تركي على الكرد في شرقي نهر الفرات كانت تركيا بصدد تنفيذه! وقد جاء تصريح ترامب الاستفزازي هذا بعد أجواء إيجابية سادت اجتماعه مع أردوغان، حمّل فيه ترامب سلفه باراك أوباما مسؤولية اضطرار الأتراك لشراء صواريخ إس 400 الروسية. فنال الرئيس التركي جرعة إيجابية كان يحتاجها بشأن عواقب إصرار تركيا على شراء الصواريخ الروسية على رغم التهديدات الأمريكية. وكرر ترامب الموقف نفسه بعد بدء وصول قطع منظومة الصواريخ الروسية المتطورة إلى قاعدة مرتد الجوية قرب العاصمة أنقرة، ليتضح أن استكمال وصول المنظومة الصاروخية وتنصيبها وتفعيلها سيستغرقان زمناً طويلاً يمتد إلى نيسان 2020.
وفي غضون ذلك، جرى إطلاق سراح نائب رئيس بنك «هلك» الحكومي، هاكان أتيلا، المحكوم في الولايات المتحدة بتهم تتعلق بتبييض الأموال في إطار خرق الحصار الاقتصادي المفروض على إيران، في مؤشر إضافي على أن الأمور ماضية بصورة إيجابية على سكة العلاقات بين واشنطن وأنقرة. ثم جاء وفد أمريكي إلى أنقرة للتباحث حول موضوع المنطقة الآمنة، وصدرت تصريحات تركية متشائمة بشأنها بعد مغادرة الوفد الأمريكي، فقيل إن الخلاف ما زال قائماً بين الجانبين بشأن عمق المنطقة الأمنية والقوات التي من المفترض أن تسيطر عليها. فالأمريكيون يتحدثون عن عمق 5 كم، يمكن أن تصل إلى 14 كم في بعض الجيوب، في حين يطالب الأتراك بـ 35 كلم. ويسعى الأمريكيون إلى تسليم الشريط إلى قوة مختلطة من دول التحالف، في حين يطالب الأتراك بتفرد جيشهم، مع حلفاء من الفصائل السورية التابعة لهم، بالسيطرة على المنطقة، على غرار ما هو قائم في منطقتي «درع الفرات» وعفرين.
الليرة التركية تتحسن منذ بضعة أيام، على رغم تراكم عديد الاستحقاقات المتعلقة بمسائل الأمن القومي المذكورة أعلاه، إضافة إلى المشكلات السياسية الداخلية، والمؤشرات الاقتصادية المقلقة
وواصلت أنقرة تعزيز قواتها المنتشرة على الخط الحدودي في منطقة «جيلان بنار» قرب أورفة، في أعقاب اجتماع مجلس الأمن القومي، بآليات وبأعداد من قوات الكوماندوس، فيما يعني ضغطاً على واشنطن لحل الخلاف المشار إليه بشأن الشريط الأمني. يبقى السؤال الملح الذي لا نملك جواباً له: هل يمكن لأنقرة أن تغامر بكل المؤشرات الإيجابية المذكورة أعلاه على خط واشنطن ـ أنقرة، فتقوم باجتياح عسكري لمناطق في شرقي الفرات على رغم تحذيرات ترامب وتهديداته؟ أم أن ما يدور تحت الطاولة يختلف عما نراه فوقها؟ الآن لنحاول قراءة ما قد يعنيه «كوريدور السلام» الذي أشير إليه في بيان مجلس الأمن القومي. من منظور «الهواجس الأمنية التركية» الشهيرة، هو يعني شريطاً خالياً من قوات وحدات حماية الشعب الكردية، لتملأ مكانها فصائل سورية تابعة لتركيا بحماية القوات التركية. ولكن ماذا عن السكان في تلك المناطق؟ لا شيء يمنع من افتراض تكرار ما حدث في عفرين من تهجير واسع النطاق للسكان الكرد، ليحل محلهم مهجرون من المناطق الجنوبية. فمن سيحل محل السكان، في القرى الكردية شرقي الفرات، إذا حدث هذا السيناريو؟
اللاجئون السوريون في تركيا، أو قسم كبير منهم!
لا أزعم امتلاك معلومات خاصة تؤكد هذه الفرضية. لكن هذا التزامن بين الإجراءات الجديدة النابذة للاجئين السوريين في تركيا، والتهديدات التركية باجتياح مناطق شرق الفرات، إضافة إلى التعزيزات العسكرية التركية المتزايدة على الحدود، ورحابة صدر دونالد ترامب تجاه المشكلات العالقة مع أنقرة.. هي مؤشرات قد تعني تفكيراً تركياً بـ«ضرب عصفورين بحجر واحد»، أي طرد المقاتلين الكرد بعيداً عن الحدود، مع توسيع مناطق السيطرة التركية داخل الأراضي السورية، و«حل» مشكلة اللاجئين السوريين في تركيا، بطريقة التغيير الديموغرافي، أي باصطناع حاجز بشري من غير الكرد بين كرد تركيا وأبناء جلدتهم في سوريا. ومن «الفوائد الجانبية» فتح الباب أمام تركيا لاستثمارات في تلك المناطق في مجال البناء. فنحن نتذكر تصريحاً لأردوغان، قبل أشهر، تحدث فيه عن «بناء منازل بطابقين محاطة بحدائق»! وهذا مهم في ظل الصعوبات التي يعاني منها الاقتصاد التركي.
سبب التفكير بهذا السيناريو الافتراضي هو السجل التاريخي للدولة التركية الذي يتضمن عمليات ترحيل ممنهجة للسكان من منطقة إلى أخرى. أشار الكاتب في صحيفة «قرار» يلدراي أوغور إلى سجل ترحيل بعض سكان إحدى قرى ساحل البحر الأسود إلى مناطق على الحدود الإيرانية في الخمسينيات، وإلى لواء إسكندرون بعيد ضمها إلى تركيا، وأخيراً إلى شمال قبرص في العام 1974. هذا غير التغييرات الديموغرافية القسرية الناتجة عن حملات عسكرية، كحال كرد جنوب شرق الأناضول الذين فر كثيرون منهم نحو إزمير وغيرها من المناطق البعيدة عن موطنهم.
القدس العربي