مع انتقال مركز الحكم في بريطانيا إلى الجناح القومي المتشدد، المعادي لأوروبا، في حزب المحافظين بزعامة بوريس جونسون، تلوح في الأفق سيادة أيديولوجية جديدة في السياسة العامة البريطانية تصوغها بعناية (مجموعة الأبحاث الأوروبية- إي آر جي) التي يرأسها حاليا جاكوب ريس موج. وقد تم اختيار ريس موج زعيما لنواب الحزب في مجلس العموم. هذا الإختيار يؤكد أن مواقف المحافظين داخل المجلس ستخضع لنفوذ المجموعة ورئيسها، إستعدادا لحدثين كبيرين، الأول هو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والثاني هو الدعوة إلى إجراء انتخابات عامة، من المرجح أن تتم بهدف تغيير ميزان القوى داخل مجلس العموم، حيث يفتقر المحافظون إلى أغلبية واضحة تساعد بوريس جونسون على تنفيذ سياساته الطموحة التي بشر بها في خطابه المتميز في مانشستر بعد يومين من فوزه بزعامة الحزب وتوليه منصب رئيس الوزراء.
ويطرح انتقال مركز الحكم إلى الجناح القومي المتشدد المعادي لأوروبا عددا من الأسئلة الملحة داخليا وخارجيا، من أهمها داخليا طبيعة العلاقات بين الحكومة بقيادة جونسون وبين بقية أجهزة الدولة، وأهمها الجهاز البيروقراطي أو الإدارة المدنية غير المنتخبة، خصوصا بعد أن وصف جونسون تصويت البريطانيين للخروج من الاتحاد الأوروبي بأنه لم يكن تصويتا ضد تركز السلطة في بروكسيل فقط، ولكنه كان أيضا تصويتا ضد تركز السلطة في لندن. هذا يعني أن بوريس جونسون سوف يفتح معركة مبكرة مع جهاز الإدارة المدنية (غير المنتخب) الذي يضم قطاعات شديدة الأهمية مثل السلك الديبلوماسي والإدارة العسكرية والإدارة المحلية. ولن تقتصر هذه المعركة على قضايا تتعلق بالوضع الداخلي في بريطانيا، ولكنها ستمتد بالضرورة إلى سياسات بريطانيا الخارجية، بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط.
التغيرات التي من المرجح أن تطرأ على سياسة بريطانيا الخارجية، سوف تتشكل على أرضية العلاقة بين بوريس جونسون وبين دونالد ترامب، وانتهاء علاقة بريطانيا بالإتحاد الأوروبي. العلاقة بين جونسون وترامب تذكرنا بالعلاقة السياسية الخاصة التي كانت بين كل من وزراء مارغريت ثاتشر رونالد ريغان في ثمانينيات القرن الماضي. ويتمتع جونسون بروابط شخصية وسياسية قوية مع الرئيس الأمريكي الحالي، مما يفتح الباب على مصراعيه لتعميق العلاقات الخاصة بين بريطانيا والولايات المتحدة في السنوات المقبلة، في حال استمرار حكم المحافظين في بريطانيا وفوز ترامب في انتخابات 2020.
العلاقات الخاصة بين بريطانيا والولايات المتحدة، تحتاج إلى معالجة متأنية نظرا للتشابك التاريخي والثقافي والاقتصادي والعسكري بين الدولتين، وانعكاساته على العالم. وبعد أن تتخلص بريطانيا من «سيطرة بروكسل» حسبما يرى جونسون، فإن الطريق قد يصبح مفتوحا للتوافق السياسي مع واشنطن، والإفتراق عن بروكسيل.
وتبدو منطقة الشرق الأوسط حاليا، هي الأشد تعقيدا والأكثر خطورة في العالم، نظرا لما يتفجر على سطحها من صراعات وما يثور داخلها من براكين تعكس تناقضات المصالح والايديولوجيات. وتشمل هذه الصراعات والبراكين، الوضع في مضيق هرمز وأمن وحرية الملاحة العالمية، والحرب في اليمن، وما يرتبط بها من تصدير الأسلحة إلى السعودية والإمارات، والإتفاق النووي والعلاقات مع إيران، وكيفية معالجة تمدد النفوذ الإيراني في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وسياسة الإستيطان الإسرائيلية في الضفة الغربية، والأزمة التي يواجهها حل الدولتين لتسوية الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، و مستقبل التجارة بين بريطانيا وبين دول مجلس التعاون، وموقف بريطانيا من مساندة الولايات المتحدة عسكريا في سوريا، إضافة إلى الأوضاع في السودان والصومال وليبيا.
خلال السنوات الأخيرة، إلتزمت بريطانيا بسياسة خارجية مستقلة إلى حد كبير تجاه الشرق الأوسط، تميل على وجه العموم إلى التوافق مع الموقف الأوروبي، حيث كانت بروكسيل محطة رئيسية من محطات صنع السياسة الخارجية البريطانية. وبسبب ذلك فإن تلك السياسة كانت تختلف في الكثير من الملامح عن السياسة الخارجية الأمريكية، وإن لم يصل الإختلاف إلى حد التناقض.
السياسة الخارجية البريطانية في الشرق الأوسط تواجه إذن اختبارات كبرى في الشرق الأوسط خلال الفترة المقبلة، ربما تدفعها إلى الانتقال من حيز «التوافق الأوروبي» إلى حيز «التوافق الأمريكي»
ويعتبر الموقف من الإتفاق النووي الإيراني، مثالا كلاسيكيا لافتراق السياسة الخارجية البريطانية عن مثيلتها الأمريكية. وقد حرصت بريطانيا حتى الآن على تأكيد التزامها به، وشاركت مع كل من ألمانيا وفرنسا في وضع صيغة «آلية لتسوية المبادلات التجارية» بين الإتحاد الأوروبي وإيران، بغرض التغلب على العقوبات الأمريكية ضد الدول التي تتعامل ماليا وتجاريا مع إيران، كما أكدت في أكثر من مناسبة ثقتها في التزام إيران بالإتفاق، وذلك قبل التصعيد الأخير في العلاقات بين البلدين.
وربما كان هذا الموقف البريطاني المتوافق مع السياسة الأوروبية، هو الذي شجع الرئيس الإيراني حسن روحاني قبل أيام على توجيه نداء إلى بوريس جونسون يحثه على «إزالة العقبات القائمة في طريق تنمية وتوسيع العلاقات بيننا»، وذلك في رسالة هنأه فيها بتوليه منصبه الجديد. فهل كان روحاني مبالغا في تفاؤله بشأن قدرة جونسون على إزالة هذه العقبات؟ أم إنه يراهن على بقاء السياسة الخارجية البريطانية تجاه الشرق الأوسط بدون تغيير، خصوصا وأن جونسون نفسه عندما كان وزيرا للخارجية ناشد الرئيس الأمريكي عدم الإنسحاب من الإتفاق؟
وعلى الرغم من أن رسالة روحاني لم تشر بشكل صريح إلى العقبات المطلوب إزالتها، فإننا نفهم أن روحاني يطلب ضمنا عدة إجراءات رئيسية، أهمها الإفراج عن ناقلة النفط الإيرانية العملاقة جريس-1 التي تحمل أكثر من مليوني برميل من النفط الإيراني الخفيف، المحتجزة حاليا في ميناء جبل طارق، والعدول عن اقتراح بريطانيا تشكيل قوة بحرية أوروبية لضمان أمن وحرية الملاحة في مضيق هرمز، وفتح قنوات حقيقية للمبادلات المالية والتجارية بين بريطانيا وإيران، ووقف أي تصعيد يؤدي إلى تأزيم الموقف.
السؤال الذي يطل بقوة هنا هو: إلى أي حد ستسهم العلاقات الخاصة القائمة فعلا بين جونسون وترامب في تشكيل السياسة البريطانية تجاه إيران خلال الأسابيع والأشهر المقبلة. لقد ناقش الزعيمان في مكالمة هاتفية طويلة يوم الجمعة 26 تموز/يوليو قضية العلاقات مع إيران، بما في ذلك الموقف من الإتفاق النووي، الذي ما تزال بريطانيا تلتزم به، والموقف في مضيق هرمز الذي تحتفظ فيه بريطانيا لنفسها حتى الآن بموقف مستقل عن الولايات المتحدة. ومن المتوقع أن ينهار اقتراح إنشاء قوة بحرية أوروبية بعد خروج بريطانيا من الإتحاد، وبسبب معارضة ألمانيا الضمنية لإنشاء قوة دولية خارج مظلة الأمم المتحدة.
ومع أن نتيجة هذه المكالمة الهاتفية الطويلة لم تظهر على السطح بشكل مباشر، إلا ان اختيار وزير الخارجية الجديد المتشدد دومينيك راب، الذي ينحدر من أسرة يهودية هاجرت من تشيكوسوفاكيا إلى بريطانيا قبيل الحرب العالمية الثانية، ربما يشير إلى تغير في اتجاه السياسة البريطانية تجاه الشرق الأوسط، بالمزيد من التشدد مع إيران، ومحاولة التأثير على المفاوضات التي يديرها الديبلوماسي البريطاني مارتن غريفيث مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة في اليمن، والانحياز إلى خطة ترامب لتصفية القضية الفلسطينية، واحتمال زيادة الثقل البريطاني في المسألة السورية.
وعلى صعيد الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، فإن السياسة الخارجية البريطانية تواجه حاليا اختبارا كبيرا فيما يتعلق بالموقف من الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس وما يتعلق بحل الدولتين كأساس لتسوية الصراع. ويعتبر وزير الخارجية الجديد أحد العارفين ببواطن مفاوضات أوسلو، حيث كان يعمل مساعدا للوفد الفلسطيني المفاوض. ومع أن السياسة الخارجية البريطانية تبدو حتى الآن أكثر توافقا مع الموقف الأوربي، فيما يتعلق برفض الإستيطان وتأييد حل الدولتين، فإن الخروج من الإتحاد الأوروبي، والعلاقات الخاصة مع ترامب من المرجح أن تقود إلى توافق أكثر مع المشروع الأمريكي لتصفية القضية الفلسطينية والسماح لإسرائيل بابتلاع القدس، وتأييد ضم الكتل الإستيطانية رسميا، وتقديم أولوية التطبيع بين العرب وإسرائيل على الإنسحاب الإسرائيلي من الأرض المحتلة.
السياسة الخارجية البريطانية في الشرق الأوسط تواجه إذن اختبارات كبرى في الشرق الأوسط خلال الفترة المقبلة، ربما تدفعها إلى الانتقال من حيز «التوافق الأوروبي» إلى حيز «التوافق الأمريكي». وربما يزيد من قوة تأثير الولايات المتحدة، أن بريطانيا تحتاج إلى مساعدة ترامب في توقيع اتفاق لإقامة منطقة تجارة حرة مع الولايات المتحدة، وكذلك مع دول مجلس التعاون الخليجي بعد خروجها من الإتحاد الأوروبي. وسوف تبين نتائج هذه الاختبارات ما إذا كانت السياسة الخارجية البريطانية تجاه الشرق الأوسط ستكون تحت قيادة بوريس جونسون، أم ستقع في قبضة دونالد ترامب.
القدس العربي