تشكل مساعي التهويد الإسرائيلية المستمرة للشطر الشرقي من القدس، المحتل عام 1967، وتهويد باطن الأرض وما تحتها في شبكة أنفاق سرية، خطرا على أسس المسجد الأقصى المبارك، ومنها ما يتفرع عن النفق الأساسي الأطول، ويمتد تحت أزقة وحارات البلدة العتيقة.
ولا يمكن تجاوز الحقيقة الأساسية في أن وضع القدس الحالي، هو أكبر دليل على استمرار النكبة الفلسطينية وعدم توقفها لتطاول ليس فقط الوجه العربي الفلسطيني وإنما أيضا الإرث الفلسطيني والإسلامي العروبي لمدينة القدس، وحتى تاريخ المجتمعات والشعوب التي سكنت القدس منذ ستة آلاف سنة.
فواقع القدس اليوم مشتق ممّا انتهت إليه حرب النكبة الفلسطينية عام 1948 بشطر المدينة إلى شطرين، واحد غربي واقع تحت الاحتلال، وفيه قامت أبرز الأحياء الحديثة للقدس، ومراكزها الإدارية والتجارية الحديثة، مثل أحياء القطمون والبقعة والطالبية، وشارعي يافا والملك جورج، وجزء ظل تحت الحكم الأردني، وقوامه الأساسي البلدة القديمة داخل الأسوار، وشكل شارعا صلاح الدين، والسلطان سليمان، ووادي الجوز مع حي الشيخ الجراح، القلب النابض لهذا الشطر، تدعمه سكانيا، القرى القريبة والمحيطة بها شمالا وشرقا وجنوبا.
مساعي التهويد وسرقة تاريخ المدينة “السفلي” إذا جاز التعبير، لرسم أساطير إسرائيلية جديدة، ما كانت لتتم لولا، أن العرب والفلسطينيين، ومنذ نزعوا إلى مشاريع التسوية، أقروا واعترفوا لإسرائيل،(تحت عبارة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل عاصمتها القدس الشرقية) بما لم يعترف به أحد ولا حتى القانون الدولي. فالقدس “الغربية” بعرف القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن والجمعية العمومية، انطلاقا حتى من قرار التقسيم الجائر، لا تقع ضمن حدود الدولة الإسرائيلية، وهو ما فسر غياب اعتراف دولي وأممي بكون الشطر الغربي من المدينة عاصمة لدولة الاحتلال.
وقد أعادت مشاركة السفير الأميركي، ديفيد فريدمان، في يونيو/حزيران الماضي، في فتح المقطع الأخير من النفق الذي يبدأ في سلوان وعين مائها لينتهي، مرورا بحائط البراق عند مفترق درب الآلام في شارع الواد، إلى الضوء حقيقة ما يحدث تحت الأرض، وحقيقة البعد الديني للصراع حول القدس، حتى لو حاول كثيرون التنكر له، أو التحذير من خطر اندفاع الصراع بين دولة الاحتلال وبين العرب والفلسطينيين إلى مزالق حرب دينية. فالصراع العربي الفلسطيني الإسرائيلي، هو صراع وجود، يقوم وينطلق أيضا من منطلقات دينية وليس فقط “قومية” كما تريد الصهيونية لنا وللعالم أن نعتقد، وهو ما أكده مرة أخرى هذا الفرح المجنون الذي يصاحب كل عمليات التنقيب والحفر تحت الأقصى وتحت القدس العتيقة.
هذا كله يلزم الشعب الفلسطيني والعرب عموما، والعالم الإسلامي، بالعودة إلى نقطة البداية، والتخلي عن شعارات “دولة إلى جانب دولة عاصمتها القدس الشرقية”. يساهم هذا الشعار عمليا بتكريس “حق إسرائيلي” في الشطر الذي احتلته قوات الهاجناة والإيتسيل والبلماح وليحي من خلال عمليات تطهير عرقي ومجازر وجرائم حرب ضد الإنسانية (دير ياسين مثلا)، فيما يحول الشطر الشرقي المحتل عام 1967 إلى منطقة “متنازع عليها”، يمكن التداول بشأنها بحلول ومقترحات “خلاقة” مختلفة مثل مقترحات لإقامة “بلدية عليا مشتركة”، وأخرى بتقاسم “الحوض المقدس”، أو تقاسم السيادة بين سيادة على ما فوق الأرض وأخرى “إسرائيلية” على ما تحتها وفي باطنها.
لا بد من إعادة تصحيح البوصلة العربية والفلسطينية، ووقف كل خطاب التسوية العقيمة التي تقوم على “الاعتراف بشطر إسرائيلي” من القدس، فيما تنكر دولة الاحتلال تاريخ المدينة وهويتها العربية الفلسطينية والإسلامية. وقف حفر الأنفاق، كما وقف الاستيطان والتهجير والتطهير العرقي، لا يمكن أن يتحقق في ظل المعادلات السابقة ولا معادلات التهديد بوقف التنسيق الأمني مع الاحتلال، بل بإعادة الصراع إلى أصوله والتصرف وفقا لذلك.
العربي الجديد