مرت أكثر من سنة بقليل منذ أن تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في جنوب سوريا. قوات الشرطة الروسية تقوم بأعمال الدورية منذ ذلك الحين في المناطق المجاورة للحدود مع إسرائيل في هضبة الجولان. كتائب سورية انتشرت على مداخل محافظة درعا وفي المدينة نفسها. مليشيات مؤيدة لإيران ومقاتلون من حزب الله جرى تثبيتهم في مواقعهم، وقد يمكن الوضع القائم من حياة سليمة لسكان المنطقة. ولكن في الأسابيع الأخيرة، تحديداً نهاية تموز، تتحدث وسائل الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان في سوريا عن ازدياد المواجهة العنيفة بين المليشيات المحلية وقوات النظام والقوات المؤيدة لإيران.
حسب موقع “شهداء درعا” الذي يوثق عدد المصابين هناك، قتل على الأقل 12 شخصاً منذ دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ. ويضاف إلى ذلك تقارير عن إعدام نشطاء مليشيات متمردين واختطاف مدنيين واعتقال وتعذيب في سجون النظام.
في المقابل، يقوم رجال المليشيات بصورة مستمرة بتنفيذ عمليات ضد أهداف عسكرية سورية، يطلقون النار ويزرعون عبوات ناسفة في حواجز الطرق ويطلبون من المواطنين المحاربة ضد السيطرة السورية على المنطقة. رسمياً، قوات الشرطة الروسية والجيش السوري هي المسؤولة عن الأمن في المنطقة. ولكن مليشيات المتمردين الذين أجبروا على نزع سلاحهم يملكون كمية كبيرة من السلاح الشخصي والعبوات الناسفة التي تمكنهم من إحياء المقاومة.
يقول النظام إن المليشيات هي المسؤولة عن خرق النظام لخدمة مصالح إسرائيل. في حين أن المليشيات تتهم النظام والقوات المؤيدة لإيران وحزب الله بضعضعة الوضع الراهن من أجل السيطرة بشكل كامل على جنوب الدولة. وظهرت مؤخراً على جدران المباني في درعا كتابات هددت بـ “كل من باع ضميره وكرامته ودينه. نحن نراكم وننتظركم، ثورة حتى النصر”. يبدو أن هذه الشعارات موجهة ضد رؤساء المليشيات الذين وقعوا على اتفاق وقف إطلاق الذي يعتبر من قبل عدد من المليشيات خيانة لفكرة مقاومة النظام. وليس مستبعداً بأن الشعارات كتبت من أجل التغطية على منفذي العمليات الحقيقيين.
أما النظرية بأن إسرائيل هي التي تقف من وراء التسخين في القطاع الجنوبي، فتقول إن طموح إسرائيل هو طرد الفرقة السورية الرابعة من المنطقة، تلك الفرقة التي يقودها ماهر الأسد، شقيق الرئيس، وتشارك فيها قوات إيرانية ومقاتلون من حزب الله. بهذا، فهي تظهر قدرتها على ضعضعة الهدوء في هذه المنطقة. حسب هذه النظرية، فإن إسرائيل تفضل أن يقوم الطابور الخامس الذي أقامته روسيا على أساسات مليشيات المتمردين الذين وقعوا على اتفاق وقف إطلاق النار، بالسيطرة على المنطقة، وبذلك قد يضمن إبعاد القوات المؤيدة لإيران. النظرية المعاكسة تقول بأن الإيرانيين وماهر الأسد هم الذين يثيرون المواجهات من أجل إثبات أن الطابور الخامس (الروسي) لا يستطيع السيطرة على المنطقة، وأنهم هم الذين عليهم تولي السيطرة الكاملة هناك.
هذه النظريات التي هي ليست أكثر من تخمين، تستند إلى أساس صلب واحد يقول إن جزءاً من القوات السورية غير راض عن السيطرة العسكرية الروسية على المنطقة ومناطق أخرى في الدولة، عن طريق شبكة وقف لإطلاق النار أملتها روسيا، وليس أقل من ذلك تدخل روسيا في إشغال الوظائف القيادية الكبيرة في الجيش السوري. الخلاف بين الفرقة الرابعة والطابور الخامس يلزم إسرائيل بأن تفحص عن كثب التطورات في المنطقة، ذلك أن روسيا لم تف بتعهدها بإبعاد القوات المؤيدة لإيران عن الحدود في هضبة الجولان. وهي في هذه الأثناء الضمانة الأهم في أن لا تتمركز القوات المؤيدة لإيران، بما في ذلك حزب الله، وتوسع سيطرتها في المنطقة.
خطر الانهيار
في درعا نفسها، عادت الحياة بالتدريج إلى سابق عهدها. المحلات فتحت من جديد، مئات اللاجئين عادوا من الأردن إلى بيوتهم، والمعبر الحدودي الجنوبي بين سوريا والأردن فتح، لكن أجهزة الإدارة المدنية السورية لا تعمل بعد. حسب اتفاق وقف إطلاق النار، يجب على قوات الجيش السوري أن لا تدخل إلى المدينة، لكن العلم السوري يرفع على المباني الحكومية، وموظفو الحكومة يعودون إلى عملهم ويقدمون الخدمات، مثل المدارس والمحاكم، ويحصلون على ميزانيات لإعادة الإعمار. تجديد هذا النشاط يتباطأ، ومعظم الخدمات تديرها لجان محلية توزع المسؤوليات فيما بينها حسب التنظيمات. جهاز القضاء يديره رؤساء القبائل، وجهاء ورجال ذوو نفوذ راكموا القوة خلال الحرب. تعهد النظام أيضاً بإطلاق سراح 4500 سجين من بينهم تم إطلاق سراح 1000 فقط. وهو أمر يتسبب بتوتر وامتعاض عام يهدد اتفاق وقف إطلاق النار.
أما روسيا التي أقامت جهازاً خاصاً لتثبيت اتفاق وقف إطلاق النار بين الجيش والمتمردين في أرجاء سوريا كجزء من العملية الاستراتيجية لنقل السلطة في الدولة إلى الأسد، فقد نجحت في معظم الحالات بوقف المواجهات العسكرية بين الطرفين. ولكن انهياراً كبيراً لاتفاق وقف إطلاق النار مثل الذي يمكن أن يحدث في جنوب سوريا، يهدد وقف إطلاق النار في مناطق أخرى، ويمكنه أيضاً أن يقلل من شرعية النشاط السياسي الروسي، خاصة في العملية السياسية الواسعة التي تحاول الدفع بها قدماً قبل الحل الشامل.
قد تؤثر ضعضعة الهدوء في الجنوب على البؤرة الأكثر قابلية للاشتعال التي في محافظة إدلب، والتي يتركز فيها 50 ألف متمرد مسلح، أعضاء مليشيات انتقلت إليها من مناطق أخرى. روسيا تطلب من تركيا أن تطبق الاتفاق الذي وقع بينهما في شهر أيلول الماضي، والذي بحسبه تهتم بإبعاد السلاح الثقيل والمتوسط عن المحافظة مقابل أن لا تشن قوات الأسد والقوات الروسية هجوماً شاملاً قد يتسبب بموجة لاجئين كبيرة، الذين سيهربون من إدلب إلى تركيا.
لم تسارع تركيا حتى الآن في تنفيذ دورها في الاتفاق، سواء لأنها لا تنجح في إقناع المليشيات بإلقاء سلاحها الثقيل، أو لأنها حولت وجود الاتفاق إلى رهينة لمطالبتها بتأسيس منطقة آمنة في شمال سوريا.
تصمم تركيا على أن هذه المنطقة تشمل الأقاليم الكردية، وأن يكون عمقها 25 – 30 كم وطولها 40 كم، وتكون تحت سيطرتها الحصرية. هذا الطلب وقف حتى هذا الأسبوع في مركز الخلاف بين أنقرة وواشنطن، التي تعارض طلب تركيا خوفاً من ألا يتعلق الأمر بمنطقة آمنة، بل احتلال تركي مباشر يضر الأكراد في سوريا، حلفاء أمريكا في الحرب ضد “الدولة”. ولكن بعد ثلاثة أيام مكتظة ومتوترة من المفاوضات بين ممثلي البنتاغون ووزارة الدفاع التركية، توصل الطرفان إلى اتفاق على إقامة غرفة عمليات مشتركة تشرف على إدارة المنطقة الآمنة بصورة “تستخدم كمعبر للسلام وتمكن آلاف اللاجئين الذين يمكثون في تركيا من العودة إلى بلادهم”.
التصريحات العلنية القصيرة لم تفسر كيف ومتى سيتم إنشاء المنطقة الآمنة، وما هو حجمها وكيف سيدار الإشراف المشترك. ولكن هذا الاتفاق سيمنع في الوقت الحالي تركيا من شن هجوم عسكري واسع في شمال سوريا. واشنطن التي حذرت تركيا بصورة فظة من هجوم كهذا يمكنها أن تقلص وجودها في سوريا إذا أثبت الاتفاق بينهما نجاعته وضمن أمن الأكراد.
في الوقت نفسه، ثمة خوف لدى القيادة الكردية من أن تمنح التفاهمات بين تركيا وأمريكا يداً حرة لتركيا في محافظاتهم، ويجري صراع قوى بين حزب الاتحاد الديمقراطي والذراع العسكري فيه من جهة والمجلس الوطني الكردي من جهة أخرى، حول مسألة تمثيل الأكراد السوريين في العملية السياسية. المجلس الكردي الوطني، المدعوم من تركيا، الذي يستعين بقيادة الإقليم الكردي في العراق، هو عضو في تحالف قوات المعارضة السورية ضد بشار الأسد، وبصفته هذه فهو مدعو للمشاركة في محادثات السلام.
تعارض تركيا إشراك حزب الاتحاد وذراعه العسكري (لجنة الدفاع الشعبي، التي تعتبرها تركيا منظمة إرهابية متفرعة عن حزب العمال الكردي)، في أي عملية سياسية، وترى في دعم الولايات المتحدة لهذه القوات دعماً للإرهاب. لا يسعى حزب الاتحاد إلى إقامة دولة كردية مستقلة، وهو يؤيد التعاون مع نظام الأسد ويأمل أن يحقق مكانة حكم ذاتي كجزء من الحل السياسي. في الأسابيع الأخيرة، استقال عدة أعضاء من المجلس الوطني الكردي وانضموا إلى حزب الاتحاد. وبهذا، عزز مكانته السياسية وقوة مساومته للاعتراف بتمثيله.
ولكن الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين أمريكا وتركيا، إذا خرج إلى حيز التنفيذ، يمكن أن يكون له تأثير على علاقة القوى السياسية في القطاع الكردي، وعلى مكانة محافظة إدلب. فلن تبقى لتركيا ذريعة لتأخير تنفيذ نصيبها في الاتفاق الذي وقعت عليه مع روسيا، وجعل المليشيات تسلم سلاحها الثقيل والمتوسط. ثمة خلافات عميقة بين قوات المتمردين في إدلب حول حيازة السلاح واستمرار محاربة نظام الأسد والضمانات التي ستمنح لضمان رجالهم بعد تسليم السلاح، ولكن حتى إذا حدثت معجزة ونجحت تركيا في هذه المهمة، فإن روسيا وسوريا ستقفان أمام معضلة شديدة، وهي أنه سيكون عليهما تحديد موقف بالنسبة لمكانة تركيا كقوة محتلة في سوريا. ولكن هذا موضوع آخر.
القدس العربي