سلطة النقد الفلسطينية وثلاث شركات اتصالات فلسطينية أعلنت، هذا الأسبوع، عن بشرى عيد الأضحى لموظفي القطاع العام في الضفة الغربية وقطاع غزة: عدم قطع خطوط الهواتف والإنترنت وإن تأخروا عن الدفع، ولن تأخذ البنوك وشركات الاعتماد كامل الأقساط الشهرية للقروض التي أعطوها لهم، ولن يفرضوا عليهم غرامات تأخير.
سلطة النقد وشركات الاتصال استجابت لطلب رئيس الحكومة محمد اشتية بإبداء المسؤولية الوطنية والتضامن الوطني والأخذ في الحسبان وضع موظفي القطاع العام. منذ خمسة أشهر وهم يحصلون على 60 في المئة فقط من رواتبهم (الذين تقل رواتبهم عن 2000 شيكل يحصلون على كامل الراتب). تفسير هذا اللغز الكبير – كيف يتدبرون أمورهم– هو سياسي قبل أي شيء. الرواتب المقلصة هي الثمن الذي تدفعه عشرات آلاف العائلات لصالح المعركة المبدئية التي يديرها محمود عباس ضد دولة إسرائيل. وبتوجيه من الرئيس، ترفض وزارة المالية الفلسطينية منذ شهر شباط الماضي أن تتسلم من إسرائيل عائدات الضرائب والجمارك التي تعود لها، والتي بلغت في 2018، 2.4 مليار دولار، هذا طالما أن إسرائيل تقتطع المبالغ السنوية المدفوعة كمخصصات لعائلات السجناء والسجناء المحررين (138 مليون دولار في السنة، حسب تقديرها).
عباس يسعى إلى إلغاء القانون الإسرائيلي الذي يسمح بمصادرة هذه الأموال – “سرقة” بلسان الفلسطينيين. وهو يفترض أن إسرائيل التي تدرك جيداً الأخطار السياسية الكامنة في انهيار اقتصاد السلطة ستتراجع أولاً. وهو لم يخطئ تماماً: إسرائيل اقترحت على الفلسطينيين أنه بدلاً من أن تأخذ ضريبة “البلو” على الوقود المشترى لصالح الضفة، وهو مبلغ شهري يبلغ 65 مليون دولار، تقوم السلطة بجبايته مباشرة. بهذا يتقلص المبلغ الإجمالي الذي تصادره إسرائيل خلافاً لاتفاق باريس، وهو الملحق الاقتصادي لاتفاق أوسلو. حتى لو كان هناك اقتصاديون وموظفون كبار أيدوا هذا الحل المؤقت، إلا أن عباس يستمر بالرفض. كلمته، كما هو معروف، هي القرار، وهو لم يتراجع وإسرائيل أوقفت تراجعها، والجمهور الفلسطيني يؤيده.
أموال جمارك الاستيراد والضرائب شكلت في 2018 نحو 60 في المئة من مداخيل السلطة، وبسبب التنازل السياسي عنها، تبنت ميزانية طوارئ للعام 2019 التي استندت إلى المداخيل من الضرائب المحلية وزيادة أخذ القروض من البنوك ووعود دول عربية لمنحها “شبكة أمان” تبلغ 100 مليون دولار شهرياً (في هذه الأثناء 40 في المئة منها فقط تمت تغطيتها) ووقف تحويل مرضى إلى المستشفيات الإسرائيلية كجزء من خطة لـ “الانفصال عن اقتصاد إسرائيل”.
إلى ذلك، لا تدفع الحكومة الفلسطينية ديونها للمزودين (بدءاً من الكراجات والمطابع وحتى شركات التأمين وشركات طبية ومستشفيات). ثمة تقارير بدأت تتحدث عن تأثير الدومينو الاقتصادي: إجازات قسرية للموظفين في القطاع العام.. الطلاب يتنازلون عن التعليم في شهر أيلول القادم.. عائلات تتوقف عن دفع التأمينات المختلفة بما فيها الصحية، وانخفاض في المبيعات (بما في ذلك عدد رؤوس الأغنام التي بيعت لعيد الأضحى)، وتجميد مشاريع. هذا الأمر يمكن أن يؤثر بدوره على البلديات وحجم الضرائب المحلية وحتى على تقليص آخر للرواتب.
يعارض عباس شخصياً وسياسياً استخدام السلاح الذي يقضي بسببه عدد من السجناء أحكاماً في السجن. عاطفياً واجتماعياً، لا يظهر اهتماماً كبيراً بهم وبعائلاتهم، ويعدّ شخصاً يبعث على النفور إلى درجة الاشمئزاز من قبل أعضاء التنظيمات الإسلامية. أجهزة الأمن الفلسطينية تواصل محاولة إخضاعها في الضفة الغربية، أحياناً كمقدمة لاعتقال أعضائها من قبل الجيش والشاباك، وأحيانًا بعد أن تم إطلاق سراحهم من السجون الإسرائيلية. بتعليمات منه، أُوقف دفع المخصصات الشهرية لعائلات بضع مئات من سجناء حماس والجهاد الإسلامي ومخصصات ورواتب لمن يؤيدون محمد دحلان.
في السياق السياسي الداخلي في فتح، عباس (بمساعدة جبريل الرجوب) حاول إقصاء نادي الأسير الفلسطيني سياسياً، الذي يقف على رأسه قدورة فارس بسبب قربه من مروان البرغوثي. في الأعوام 2007 و2008 كان فارس من المؤيدين الرئيسيين لقبول قانون تسلم مخصصات لعائلات السجناء الأمنيين. وشرح ذلك بالحاجة إلى أن يمنع عنها التدهور إلى الفقر وتمكينها من توفير التعليم العالي لأبنائها. ما زال فارس يحظى بشعبية في فتح. ولكن ترقيته في مؤسسات الحركة أوقفت بأمر من أعلى، ثم قُلصت ميزانية نادي الأسير الذي أعيد انتخاب إدارته. كل ذلك ليس له علاقة مع موقف عباس القاضي بأنه يجب على إسرائيل عدم المس بمداخيل السلطة الفلسطينية والتدخل في صورة صرفها. متحدثون من قبله أيضاً يحرصون على الإعلان في كل شهر بأن مخصصات عائلات السجناء تدفع كاملة.
تسهيلات شركات الاتصال، كما حددت التقارير الصحافية، هي بالتأكيد ذات أهمية في مجتمع مشبع بالهواتف المحمولة (4.9 مليون من المواطنين في القطاع وفي الضفة امتلكوا نحو 4.5 مليون خط هاتف في نهاية العام 2018 وهذا لا يشمل المسجلين في شركات الهواتف الإسرائيلية). والاتصال بالإنترنت يزداد كل سنة، ففي نهاية العام 2018 كان عدد المتصلين بالإنترنت 316 ألفاً مقابل نحو 120 ألف متصل في العام 2010.
تعليمات سلطة النقد بالاهتمام بموظفي القطاع العام، حيث أحد المقترضين قال “ما تبقى لي في البنك بعد دفع الأقساط 200 شيكل”، بهذه الكلمات أقسم أمامي معلم شاب في مدرسة حكومية. مبلغ الشيكات الراجعة في شهر حزيران كان 108 ملايين دولار، أكثر من الربع عن الفترة نفسها في السنة الماضية، كما أبلغت سلطة النقد. كان هناك أيضاً ارتفاع بـ 14.5 في المئة في عدد الشيكات الراجعة، 68 ألفاً، وهذا ليس ظاهرة جديدة، لكن يجب ربط هذا الأمر الآن مع الضربات المالية التي تعرض لها الفلسطينيون في السنة الأخيرة: تقليص الدفعات من رام الله لغزة، والضرائب الإضافية التي فرضتها سلطة حماس على السلع والتجار، وانخفاض حجم الهبات للسلطة الفلسطينية وإلغاء المساعدة الأمريكية للأونروا وللسلطة الفلسطينية.
هناك من تولد لديهم الانطباع بأن الحكومة الفلسطينية ليس لديها خطة احتياط، وهي تنتظر حدوث معجزة، ربما في انتخابات إسرائيل. ومع ذلك، تقوم بعدة خطوات التي هي أكثر من خطوات تظاهرية: حسب قرار الانفصال عن الاقتصاد الإسرائيلي، عادت وودعت مواطنيها بتفضيل الإنتاج الفلسطيني على الإسرائيلي (في شهر أيار كان هناك ارتفاع صغير في حجم الإنتاج الفلسطيني البديل عن الإنتاج الذي يشترى من إسرائيل في مجال الغذاء والسجائر مثلاً). نحو 70 طناً من البضائع التي هُربت من إسرائيل عن طريق التهرب من الجمارك الفلسطينية، كانت ضبطت في نصف السنة الأول قبل وصولها إلى الأسواق الفلسطينية، كما أعلنت وزارة الاقتصاد الوطني هذا الأسبوع. صندوق الاستثمار الفلسطيني تقدم بخطة لتقليص الاعتماد على الكهرباء التي تشترى من إسرائيل عن طريق إقامة محطات للطاقة الشمسية. إحدى هذه المنشآت قرب أريحا بدأت العمل قبل شهر تقريباً. ومنشأتان في طور البناء في طوباس وجنين.
حكومة اشتية تبنت خطة للاستثمار مركزة في عناقيد جغرافية مقسمة حسب أقسامها الاقتصادية: الزراعة (قلقيلية وطولكرم وجنين وطوباس)، صناعة وتجارة (الخليل ونابلس)، سياحة (رام الله وبيت لحم). الهدف هو زيادة نجاعة الاستثمارات الحكومية من جهة، وتشجيع القطاع الخاص من جهة أخرى، عن طريق تحسين التنسيق بينهما. وهناك مشاريع لتوسيع العلاقات الاقتصادية مع الأردن وزيادة حجم الإعفاء من الضرائب على البضائع الفلسطينية التي ستسوق في إندونيسيا. بهذه الروح، أعلن رئيس اتحاد منتجي الأدوية الفلسطينية، باسم خوري، أنه يمكنهم زيادة حجم الإنتاج والوصول إلى 80 في المئة تقريباً من الأدوية المستهلكة في السوق المحلية بدلاً من 60 في المئة، من خلال محاربة جهود الإغراق بالأدوية الإسرائيلية.
لجنة شعبية صغيرة جددت هذا الأسبوع محاولتها للدعوة إلى تقليص شراء المنتجات الإسرائيلية إلى الحد الأدنى كخطوة استباقية، وحسب قولها، لنشاطات أكثر قوة ضد إدخال البضائع الإسرائيلية، بما في ذلك الفواكه. يمكن التشكيك بقدرة الفلسطينيين تماماً على تغيير أنماط الاستهلاك التي طوروها خلال سنوات، وبقدرة الاقتصاد الفلسطيني على التغلب على القيود التي تفرضها إسرائيل عليهم. ولكن رغم الشك العميق تجاه السلطة الفلسطينية ومن يقف على رأسها، فإن الجمهور يظهر تفهمه للأسباب التي تقف من وراء زيادة الركود الاقتصادي، السلاح الفلسطيني غير السري للوجود والصمود استُل مرة أخرى: القدرة على القيام بتنازلات مادية وتضامن اجتماعي أو مساعدة متبادلة ولو في إطار العائلة الموسعة.
القدس العربي