يدفع بعض المحللين، خطأً أو عن سوء نية، بأن صعود النبرة القومية، والتيار اليميني في الدول المتقدمة، يعود في الأساس إلى ارتفاع نسبة الهجرة الأجنبية، ولمنافسة المهاجرين على فرص عمل الطبقة الوسطى أو الدُنيا من المواطنين الأصليين.
تتكرر هذه المقولة، في حين أن الإحصاءات والمؤشرات في الأعوام الأخيرة لا تدلّ على ذلك على الإطلاق. فإذا راجعنا البيانات الخاصة بالولايات المتحدة، أقوى اقتصادات العالم، توضح تلك البيانات أن الفترة ما بين 2007 إلى 2016 شهدت انخفاضاً ملحوظاً في الهجرة غير المشروعة عبر الحدود المكسيكية الأميركية، أكثر الحدود تعرضاً لهذه الممارسة، وتشمل بعض الهجرة المحدودة للغاية من دول لاتينية أخرى، بغرض طلب اللجوء السياسي في الولايات المتحدة، وبشفافية كاملة عند الوصول إلى الحدود، وتتم مباشرة مع السلطات الأميركية، التي ترفض الغالبية العظمى من هذه الطلبات.
وهناك مؤشرات مماثلة في الساحة الأوروبية أيضاً، حيث انخفضت نسبة الهجرة غير المشروعة عام 2018 إلى 89%، عما كانت عليه عام 2015، وانخفضت نسبة البطالة إلى 3.6%، وهي مستويات أقل كثيراً مما كانت عليه في العقود الماضية.
وتجدر الإشارة إلى أن فرص العمل الجديدة في الدول المتقدمة وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، وأن أكثر من ثلثي دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، التي تجمعهم، في أفضل أوضاعها اقتصادياً، وشهدت ارتفاعاً ملحوظاً ومتواصلاً في مستوى الأجور.
وعلى الرغم من أن البيانات الموضوعية تعكس تنامي اقتصادات الدول الصناعية على مستوى اقتصادات السوق في العقدين الماضيين، سنجد أن الرأي العام في الدول المتقدمة من الطبقة الوسطى يحذّر من عدم كفاءة النظام الاقتصادي، وتحديداً اقتصادات السوق. و يحمِّل الهجرة المشروعة وغير المشروعة مسؤولية عدم تحقيق المزيد من الرفاهية، ويثني على النظُم السياسية والاقتصادية المركزية، وبخاصة في أدائها الاقتصادي، غافلاً تماماً أن تلك النظم انهارت سياسياً واقتصادياً في النصف الثاني من القرن الماضي.
ومن الأخطاء الأخرى والانطباعات غير السليمة والتحليلات غير الدقيقة التي نشهدها، الدفع بأن ظهور تيارات يمينية في الساحات السياسية للدول الصناعية كان بسبب مشاكل الهجرة غير المشروعة، والتنافس حول فرص العمل، والانكماش الاقتصادي، في حين أن المسألة أكبر وأعمق من ذلك، وهو ما تشهد به أحداث العنف، وآخرها ما وقع في تكساس، وقبلها في لويزيانا، أو في أوروبا الغربية، من أهلها الأصليين.
إذا دقّقنا في أسباب انتخاب دونالد ترمب رئيساً للولايات المتحدة، والذي حذر من خطورة الهجرة غير المشروعة خلال حملته الانتخابية الأخيرة، واستغلها لجذب غضب تيار محدد من الناخبين الأميركيين، سنجد أن غضبهم لم يكن لعدم كفاءة أداء الاقتصاد الأميركي، أو لتأثير المهاجرين غير الشرعيين على فرص العمل، وإنما سننتهي من هذا التدقيق إلى أن فوزه الانتخابي كان لغضب الطبقة الوسطى والدُنيا من المنظومة السياسية الأميركية التقليدية لشعورهم بأنها تتجاهل أصواتهم ومصالحهم، وهو ما أكد عليه ترمب خلال حفل تنصيبه رئيساً بشنه هجوماً شديداً على السياسيين الأميركيين، بما في ذلك الحزب الجمهوري الذي تبنى ترشيحه للانتخابات الرئاسية. إذاً، ترمب انتُخب كمرشح المجتمع الأميركي الغاضب على المنظومة السياسية الأميركية، والتي انفصلت عن الناخب وأصبحت تمثل مصالح جماعات القوة والمؤسسات الكبرى، وليس لضائقة اقتصادية ومنافسة من المهاجرين على فرص العمل.
وهناك أيضاً تقييم وتقدير غير سليم لأسباب ظهور التيارات السياسية اليمينية في أوروبا، فعلى الرغم من أن مسألة الهجرة غير المشروعة كان لها تأثير سلبي لدى الرأي العام، بخاصة خلال عام 2015، فهذه ليست القضية الرئيسة وراء بروز هذا التوجه، وأكبر مؤثر على أن أوروبا أيضاً تشهد وتعاني من عدم ارتياح مجتمعي للمنظومة السياسية التقليدية، مثلها مثل أميركا، كانت نتائج الانتخابات الأخيرة للبرلمان الأوروبي، والتي انتهت إلى ثبات عام لوزن التيارات اليمينية دون تنامي فيه، مع صعود للتيارات اليسارية مثل حزب “الخضر”، وكل ذلك على حساب الأحزاب الأوروبية التقليدية، والتي كانت تسيطر على الساحة السياسية في أغلب الدول الأوروبية في النصف الثاني من القرن الأخير.
ويثبت كل ذلك أنه في الوقت الذي يتحدث فيه العالم، وبخاصة الغربي، عما يسمى “الربيع العربي” والقصور في المنظومة السياسية العربية، فقد فقدت المنظومات السياسية في المجتمعات الصناعية المتقدمة الغربية، وقبلها المركزية الأوروبية الشرقية، اتصالها مع فئات غير قليلة من مجتمعاتها، وتمارس سياسات تنصبّ على اهتمامات قادة السياسة، والاقتصاد، والفكر الاجتماعي، ولا تعبّر عن رؤى قطاعات كبيرة من شعوبها، بصرف النظر عن ارتفاع مستوى المعيشة والإحصاءات الوطنية عن زيادة معدل النمو.
ومن ثم، فالاستنتاج الذي يمكن أن نستخلصه من هذا، ليس أن تلك المجتمعات تتجه جذرياً يميناً أو يساراً لاعتبارات اقتصادية أو أمنية، وإنما أن مجتمعات الدول المتقدمة، الديموقراطية و المركزية، ترفض المنظومة السياسية الوطنية القديمة، والتي لم تعد تستجيب إلى متطلبات واحتياجات الشعوب في عصر العولمة.
لقد آن الأوان لمراجعة سياسية على المستويات الوطنية، داخل الدول والأوطان، في الدول المتقدمة، مثلها مثل الدول النامية، لتطوير النظم السياسية لتستجيب بشكل أفضل وأوسع لمتطلبات المواطنين.
وبهذه المناسبة، يهمني التنويه أيضاً إلى أهمية سرعة مراجعة وتقويم المنظومة السياسية إقليمياً ودولياً، والتي تنظّم العلاقات بين الدول، و التي مرّ عليها أكثر من 80 عاماً، منذ بعد الحرب العالمية الثانية، والاستجابة لمطالبات العديد من الدول إصلاح مؤسسات الأمم المتحدة، والوضعية الخاصة للدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، بما يتماشى مع المتطلبات الحضارية في القرن الحادي والعشرين، دون أن يتعارض مع خصوصيات الدول واستقلالها.
اندبندت العربي