أحتفظ بقطعة من 1 يوان على لوحة مفاتيح الكمبيوتر الخاصة بي. إنها تذكرني بما يهم في الحياة، مثلما هو الأمر بالنسبة لمن يحتفظون بصور عائلاتهم على مكاتبهم، أو كمن يضع صورة لسيارة ألفا روميو المكشوفة على خلفية شاشة الكمبيوتر، أو يحمل قلادة من الشعر الاصطناعي لبوريس جونسون حول عنقه.
على أية حال، تبلغ قيمة اليوان الخاص بي 12 بنسًا، أو ما يزيد بقليل عن 14 سنتًا أميركيا، كي ندخل في الموضوع مباشرة . وبالتالي، فإن الدولار الأميركي يساوي سبعة يوانات، أو رنمينبيات (المصطلح الرسمي الذي يعني “عملة الشعب” بالطبع). انخفض للتو سعر صرف اليوان مقابل الدولار إذ ، كما يقول المثل “كسر حاجز السبعة” (أو “بو كي”، كما يقولون في الصين). كان الدولار قبل عام واحد يساوي 6.85 رينمنبي، وقبل خمس سنوات كان يساوي 6.15. لذلك فإن سعر الصرف اليوم لا يعد تحولا زلزاليا، لكن ذلك يمثل لحظة مهمة من الناحية النفسية والرمزية. خفّض الصينيون قيمة عملتهم لتعويض خسائرهم الناجمة عن الرسوم الجمركية التي فرضها دونالد ترمب، ولا شك أنه ببساطة سيضيف مزيداً من هذه الرسوم في عمليات انتقامية متبادلة. فهذه هي ديناميات التصعيد في الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين.
لكن التصعيد لا يتوقف عند هذا الحد. فالبيت الأبيض آخذ ، بشكل عام، في ” “ربط” العلاقة الاقتصادية بين القوتين مع العلاقة الجيوسياسية المتوترة بالقدر نفسه. وتشمل نقاط الخلاف هذه كل شيءٍ بدءاً بعدم ارتياح أميركا لمبادرة الحزام والطريق (وما تحمله من إشارات على استعمار جديد يمتد من سريلانكا إلى جيبوتي فإيطاليا وتايوان، والنزاعات السيادية المختلفة في بحر الصين الجنوبي، وربما حول هونغ كونغ). وفي الحقيقة ثمة ما يكفي ويزيد من نقاط الخلاف بين واشنطن وبكين.
أعلن ترمب أنه سيمدّد في 1 سبتمبر (أيلول) المقبل الرسوم الجمركية المفروضة حالياً على الواردات من الصين والتي تبلغ 10% ، وذلك كي تشمل كافة البضائع الآتية من هناك تقريبا. كما هدّد برفع الرسوم إلى 25%. من جانبها، ردّت السلطات الصينية على ذلك بالسماح لقيمة الرنمينبي بالهبوط، ما يعني “التلاعب” بهذه العملة، من وجهة نظر واشنطن ، ولاسيّما أن وزارة الخزانة الأميركية قد أعادت تصنيف الصين رسميا في قائمة الدول التي تتلاعب بعملاتها. وبدورها، فرضت الصين قيودًا تجارية خاصة بها على المنتجات الزراعية الأميركية.
وأثار هذا التوتر عمليات البيع الحالية للأصول ذات المخاطر العالية، وخصوصاً أسهم الشركات المعرضة لمخاطر التجارة الدولية، والتحول السريع إلى الأصول الأكثر أمانًا، مثل بعض السندات الحكومية. وتتأثر شركات مثل آبل بطرق متعددة. فهي أولاً، تواجه ارتفاع تكاليف استيراد مكونات ومنتجات جاهزة مثل أجهزة آيفون من الصين. وثانياً، عندما يرتفع سعر أجهزة آبل، تضطر الشركة إلى تقليص هوامش الربح لحماية حصتها في السوق.
وثالثًا، تتأثر هذه الشركات عندما يكتشف المستهلكون الأميركيون ضعف قدرتهم على الإنفاق إجمالا، نظرًا للآثار التضخمية للرسوم الجمركية، وأيضا بسبب تراجع الدخل في بعض القطاعات، مثل الزراعة، التي ستتأثر بانخفاض الطلب الصيني. وبالتالي يؤجل المستهلكون شراء جهاز آيباد جديد، مثلاً.
رابعًا، يؤدي انخفاض سعر السهم إلى زيادة تكلفة جمع رؤوس الأموال بالنسبة لشركة آبل. وعندما تقل قيمة أسهم آبل وشركات أخرى، تقل قيمة صندوق المعاشات. من ناحية أخرى، إذا استجابت هذه الشركات لرغبة ترمب ونقلت مصانعها إلى أميركا حيث تكلفة الإنتاج مرتفعة، فإن ذلك سيؤثر على هوامش ربحها. بالتالي فإن بإمكان هذه الشركات أن “تعيد الوظائف إلى الوطن،” لكن هذه الطريقة ليست فعالة اقتصاديًا.
وبمعنى آخر، سيصبح الجميع أكثر فقراً، كما يحدث عادة في أي حرب تجارية. لهذا، سارع المستثمرون أخيراً إلى شراء السندات الحكومية، التي يُفترض أنها أقل عرضة للمخاطرة خلال الانكماش الاقتصادي. وفي الواقع، أصبح العائد على سندات الحكومة الألمانية طويلة الأجل (30 سنة) سلبيا. وهذا يعني أنك، أنت “المودع”، ستحصل فعلياً في ثلاثة عقود على ربح أقل بقليل من، حيث القيمة النقدية، مما تُقرضه اليوم لحكومة برلين. وهذا يوضح مستوى التوتر الذي يشعر به المودعون حيال استثمارات مالية أخرى.
والواقع أن نصف السندات الحكومية الأوروبية تقريباً تتمتع حالياً بعائد سلبي، إذ بلغت 4.4 تريليون يورو (أي 4400 مليار يورو)، مقابل 3.3 تريليون يورو “فقط”، في نهاية شهر يناير(كانون الثاني)، وذلك وفقًا لبيانات موقع تريدويب. وكل هذا مشروط ومدعوم بأسعار الفائدة للبنك المركزي التي لا تزال منخفضة للغاية في جميع أنحاء العالم. ويشكل خفض البنك الفيدرالي الأميركي سعر الفائدة الأسبوع الماضي بنسبة ربع نقطة إلى نطاق يتراوح بين 2 و2.25 %، مثالا رائعا على منحى الهبوط المتجدد لأسعار الفائدة.
يدعم الاحتياطي الفيدرالي بشكل فعال السياسة الحمائية التي يتّبعها ترمب من خلال تخفيف وطأة بعض أسوأ آثار ارتفاع ضرائب الاستيراد عن الشركات والأسر، ولكن هذا قد لا ينجح إلى الأبد. صار أخيراً منحى عائد سندات الحكومة الأمريكية سالباً ، ما يعني أن العائدات على السندات طويلة الأجل هو أقل من العائدات على السندات قصيرة الأجل، ويحدث هذا مرة أخرى عكس المنطق السليم.
يزيد كل هذا من المؤشرات المسبقة أوالتوقعات بشأن ركود اقتصادي عالمي، لأن أسعار الفائدة المنخفضة ترافق الانكماش. والسبب في هذا ببساطة هو ضعف التجارة وبالتالي انخفاض الطلب في أكبر اقتصادين في العالم، والخلافات الجيوسياسية المتنوعة. كما أن هناك تطورات أخرى أقل أهمية في التجارة الدولية تثير القلق بدورها، مثل احتمال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بدون صفقة، والحرب التجارية بين اليابان وكوريا الجنوبية، ولا ننسى مناوشات ترمب التجارية المتقطعة مع المكسيك والاتحاد الأوروبي وكندا والتي يمكن أن تندلع مرة أخرى في أي وقت.
إضافة إلى ذلك، لا توجد هناك كثير من المنتديات لإنهاء الحروب التجارية. فمنظمة التجارة العالمية القديمة الضعيفة أصبحت في حالة احتضار وعاجزة عن أداء مهامها التحكيمية، لأن ترمب يرفض تعيين قضاة لمحكمة المنظمة، وسيتجاهلها في أي حال، وهو تطور سيجعل اعتماد المملكة المتحدة على شروط منظمة التجارة العالمية في موضوع البريكست محفوفا بالخطر.
لذلك، كما كان الحال في ثلاثينيات القرن الماضي، بدأت عشرينيات هذا القرن تأخذ شكل عقد صعب يسوده الكساد الاقتصادي. ومثلما حصل في ذلك الوقت ، مهدت أزمة مالية الطريق لعودة القومية الاقتصادية والشعبوية.
واليوم تُضاف أيضاً العقوبات الاقتصادية التي تحركها دوافع سياسية، ضد إيران وروسيا على سبيل المثال، إلى تلك العقوبات التي تبدو ظاهرياً مرتبطة بالتنافس الاقتصادي. وفي كلتا الحالتين، تزيد الدول من فقر بعضها بعضاً وتقتل النمو والوظائف – تماماً مثلما فعلت في الثلاثينيات. وجميعنا يعرف أن الحرب تلت ذلك.
اندبندت العربي