لم يتردد بعض المسؤولين الإيرانيين بموقع القرار السياسي والعسكري عن تأكيد سيطرتهم على أربع عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، وأن نفوذهم الأمني والعسكري والسياسي قد بات مشرفا على السواحل الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، وأن إيران باتت عسكريا على الحدود مع إسرائيل وعلى استعداد لخوض أي مواجهة عسكرية مع الجيش الإسرائيلي في حال تعرض الأمن القومي الإيراني و”الهلال” الذي أقامته عبر العراق وسوريا ولبنان لأي خطر أو هجوم.
العقوبات الأميركية وعسكرة الدولة الإيرانية
هذه التصريحات، في حقيقتها لم تكن تستهدف استفزاز المشاعر العربية بالدرجة الأولى، وقد فعلت، إلا أن الهدف الرئيس وراءها كان توجيه رسالة إلى تل أبيب ومن ورائها البيت الأبيض، بأن تُحوِّل طهران هذا الوجود العسكري، المباشر أو عبر الحلفاء والأذرع في لبنان وسوريا والعراق، إلى ورقة للتفاوض مع واشنطن على مستقبل دورها في المنطقة وحجمه، وأنها باتت الآن الجهة الأقدر على تقديم الضمانات التي تريدها واشنطن الأمنية والعسكرية، وحتى السياسية، لاستقرار وأمن إسرائيل، انطلاقا من كون تمددها العسكري وانتشارها، مباشرة أو عبر أذرعها على الجبهة الجنوبية في سوريا ولبنان غير المستقرة والمتحركة أمنيا وقابلة للتفجير عسكريا، يشكّل ورقة تفاوضية تسمح لها بالعمل من أجل الحصول على اعتراف دولي خصوصا أميركي بكونها لاعبا إقليميا إلى جانب اللاعبين الآخرين يتنافسون على هذه المنطقة، وإلا فإن رفض هذه المساعي من قبل واشنطن سيجعل طهران قادرة على تهديد أمن الحليف الرئيس لواشنطن في الشرق الأوسط باستمرار ويحولها إلى عائق أو معرقل لأي عملية سلام أو تفاهم إقليمي من دونها.
ولا شك أن هذا الانتشار والنفوذ الإيراني في هذه العواصم وصولا إلى بعض الفصائل الفلسطينية شكّل ويشكّل الهاجس الأساسي لدول المنطقة وللقيادة الإسرائيلية ومن ورائها الأميركية في اللعبة الاستراتيجية والجيوستراتيجية في المنطقة، برزت بشكل واضح في حرب 2006 في لبنان ضد حزب الله، وهي مستمرة في العمليات العسكرية التي تقوم بها إسرائيل ضد قواعد حرس الثورة الإيراني في سوريا وحليفه اللبناني حزب الله، إلى جانب الجهود السياسية التي تقوم بها من أجل قطع الطريق على فرض معادلة الحضور والنفوذ الإيراني في سوريا، وهي هواجس تلتقي مع هواجس الكثير من العواصم العربية التي ترفض التسليم بهذه السيطرة الإيرانية على العواصم العربية وتعمل على عدم تحويلها إلى منصات إيرانية لمخاطبة عواصم القرار الدولي.
لم تشعر إيران بالتهديد الحقيقي لدورها إلا عندما أعلنت القيادة الكردية في إقليم كردستان العراق نيتها إجراء استفتاء في 25 سبتمبر (أيلول) 2017 حول استقلال الإقليم عن الدولة العراقية وإنشاء دولة مستقلة، إذ اعتبرت طهران وحلفاءها من الفصائل العراقية أن هذا الاستفتاء “عمل إسرائيلي” وأن إنشاء دولة كردية في إقليم كردستان يعني انتقال إسرائيل إلى الحدود الإيرانية، ما يعني أن طبيعة المعركة الجيوستراتيجية بين الطرفين قد انتقلت إلى مرحلة جديدة، قد تسمح لتل أبيب بأن تكرس معادلة حدود مقابل حدود مع طهران، وأن تؤثر سلبا على “الهلال” الجيوسياسي والجيوستراتيجي الذي بدأت بتحديد معالمه امتدادا من طهران وصولا إلى البحر الأبيض المتوسط. وبالتالي تكون قد خسرت كل الاستثمارات التي وظفتها في هذه المنطقة من أجل تثبيت أقدامها كشريك في أمن الإقليم. ووصل الأمر بالمرشد الأعلى للنظام آية الله علي خامنئي إلى القول بأن بلاده “تعارض عقد مباحثات على الاستفتاء لتقسيم العراق وتعتبر كل من يؤيد الفكرة بأنه من المعارضين للاستقلال العراق”.
الموقف الإيراني الرافض لانفصال كردستان بما يعنيه من تهديد لأمنها القومي وتصاعد التحركات القومية داخل إيران المطالبة بحقوقها، إذ خرج إيرانيون أكراد في مسيرات في شوارع مناطقهم تأييداً للاستفتاء فقامت السلطات الإيرانية بقمع وترهيب المتظاهرين الأكراد واعتقال عدد منهم.
إضافة إلى الخطر الإسرائيلي، كان الدافع الرئيس وراء دخولها مباشرة على خط المواجهة مع حكومة إقليم كردستان والعمل على إفشال وإسقاط الاستفتاء عسكريا. اعتبار الاستفتاء تهديدا للأمنها القومي، وفي هذا السياق لم يتردد الجنرال قاسم سليماني قائد فليق القدس من استعراض دوره في العملية العسكرية التي قام بها الجيش العراقي في 16 أكتوبر (تشرين الأول) 2017 في السيطرة على مدينة كركوك والمناطق المتنازع عليها وحتى قيام قوات من الحشد الشعبي بتهديد حدود مدينة أربيل عاصمة الإقليم. واعتبرت عملية إفشال الاستفتاء حينها بمثابة انتصار إيراني على الخطط الإسرائيلية التي تستهدف الداخل الإيراني والنفوذ الإقليمي للنظام.
وبناء على تجربة إقليم كردستان فإن النظام في طهران يتعامل مع إعلان الحكومة الإسرائيلية ورئيسها بنيامين نتنياهو استعدادها للمشاركة في الائتلاف أو التحالف الدولي البحري لتأمين الملاحة في مضيق هرمز وبحر العرب وباب المندب، بمثابة تهديد استراتيجي وجيوستراتيجي لأمنها القومي ومناطق نفوذها وما تعتبره حقائق تاريخية وجغرافية تمتد إلى مرحلة ما قبل الثورة الإسلامية، من هنا فإن الرد الإيراني على الإعلان الإسرائيلي لم يقتصر على الإدارة السياسية ممثلة في رئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية، بل تعداه إلى اعتبار الأمر قضية أمن قومي، وحسب تعبير وزير الخارجية ورأس الدبلوماسية محمد جواد ظريف فإن أمن مضيق هرمز مسألة عسكرية والرأي فيها للمؤسسة العسكرية، أي أن المؤسسة السياسية والدبلوماسية تنفذ ما يصدر من توجهات تدخل في تصنيف الأمن القومي، واعتبار أي مشاركة إسرائيلية “تهديد واضح لأمن وسيادة وسلطة ووحدة الأراضي الإيرانية وسببا في إثارة الأزمات وعدم الاستقرار في منطقة الخليج” وصولا إلى التهديد بالتعامل بالمثل في إطار سياسة “الدفاع والاحتفاظ بحق الرد”.
الاستنفار الإيراني بجميع مستوياته السياسية والعسكرية نتيجة إمكانية مشاركة إسرائيل، يعني أن طهران لن تتردد في الإقدام على أي عمل، حتى ولو كان فتح معركة عسكرية مباشرة مع تل أبيب من أجل منع حصول هذه المشاركة وأن تتاح الفرصة لإسرائيل بالاقتراب من الحدود الإيرانية برعاية ومشاركة دولية هذه المرة، من هنا يمكن التوقف عند عودة مسؤولين في حزب الله الذراع اللبنانية لإيران للحديث عن تصاعد التوتر على الحدود الجنوبية للبنان مع إسرائيل وعودة خطر قيام تل أبيب بهجوم عسكري ضد الحزب، والتي تكشف عن وجود استعدادات لدى هذا الحزب لخوص معركة عسكرية في حال شكّل التحالف البحري بمشاركة إسرائيلية خطرا استراتيجيا ضد إيران.
اندبندت العربي