خرجت الخلافات السرية داخل هيئة الحشد الشعبي بشأن الموقف الذي يجب أن تتخذه هذه القوة من تطورات التصعيد بين طهران وواشنطن، إلى العلن لأول مرة، لتجد العملية السياسية في العراق نفسها في مواجهة تحدّ خطير، طالما فضلت الحديث عن عدم وجوده. وشكلت هجمات طالت مخازن أعتدة الحشد الشعبي في العراق مؤخرا، واتهمت إسرائيل بالوقوف خلفها، فرصة مثالية لانكشاف الصراع الداخلي في قيادة هذه القوة، وحقيقة ما إذا كانت خاضعة لسلطة الحكومة العراقية فعلا.
من جانبه، حمّل نائب رئيس هيئة «الحشد الشعبي» أبو مهدي المهندس، أول أمس الأربعاء، الولايات المتحدة الأمريكية مسؤولية استهداف المقرات العسكرية العراقية، فيما أكد امتلاك الحشد معلومات وخرائط وتسجيلات عن جميع أنواع الطائرات الأمريكية، متى أقلعت ومتى هبطت، وعدد ساعات طيرانها في العراق.وقال في بيان إن «أعداء العراق أصبحوا اليوم يخططون مجددا لاستهداف قوات الحشد الشعبي بطرق مختلفة، أمريكا التي أسهمت بجلب الجماعات الإرهابية إلى العراق والمنطقة باعتراف (الرئيس الأمريكي دونالد) ترامب تفكر بأساليب متعددة لانتهاك سيادة العراق واستهداف الحشد».
وأضاف أن «ذلك يأتي بعد اندحار داعش الإرهابي والانتصارات الكبيرة التي حققها أبناء الحشد والقوات العسكرية والأمنية، وما سبقها ولحقها من عملية تثبيت هيئة الحشد قانونيا ورسميا بدعم شعبي ورسمي، بالأخص من لدن رئيس الوزراء وإصداره الأمر الديواني الداعي لتنظيم الحشد، وبعد قرار مجلس الأمن الوطني الذي ألغى جميع رخص الطيران فوق الأجواء المحلية».
وأوضح أن «عمليات الاستهداف كانت تجري تارة من خلال الطعن بشخصيات جهادية ووطنية من مختلف الأطياف بواسطة حملات تسقيط إعلامية مصحوبة بوضع أسماء على قائمة الإرهاب في وزارة الخزانة الأمريكية السيئة الصيت، وتارة أخرى من خلال استهداف مقرات الحشد الشعبي في مناطق مختلفة عن طريق عملاء أو بعمليات نوعية بطائرات حديثة».
وقد تلقت الأوساط السياسية العراقية بيان المهندس بوصفه مؤشراً على استقلالية الحشد الشعبي عن الدولة العراقية، وانخراطه بشكل واضح في النزاع الدائر بين الولايات المتحدة وإيران، لصالح الأخيرة، فيما قال مراقبون إن هذا الموقف يعكس حقيقة وجود دولة للحشد داخل الدولة العراقية، وربما بموازاتها، فيما أشار آخرون إلى مقدار الحرج البالغ الذي سيتسبب به هذا التصعيد للحكومة، التي تعلن مراراً أنها تسيطر كليا على الحشد الشعبي.من جهة أخرى قال مقربون من زعيم حركة عصائب أهل الحق، قيس الخزعلي، ذي الصلة الوثيقة بإيران، إن “رئيس الحكومة عادل عبد المهدي، ورئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض، تعرضا لضغوط أميركية كبيرة، بعد صدور بيان المهندس، بهدف انتزاع موقف مضاد”.
لم تمر سوى ساعات قليلة على إعلان موقف المهندس، حتى صدر بيان صريح موقّع من رئيس هيئة الحشد فالح الفياض ، يشدد على خضوع هذه القوة بشكل كامل لأوامر القائد العام للقوات المسلحة، رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، مؤكدا بشكل صريح أن بيان المهندس لا يمثل الحشد الشعبي.تسلط هذه التطورات، الضوء على الانقسام الحاد داخل قيادة الحشد الشعبي، بشأن الموقف الذي يجب أن تتخذه هذه القوة من الصراع بين الولايات المتحدة وإيران. بينما يصر المهندس على الانخراط كلياً في دعم إيران، يرى الفياض، ومعه عبد المهدي أن الحفاظ على التوازن هو السبيل الوحيد أمام العراق للخروج من هذه الأزمة بأقل الخسائر.
يتوقع مراقبون أن تكون هذه التطورات مقدمة لفرز أوضح داخل هيئة الحشد، بين معسكرين، يوالي الأول الحكومة العراقية عبر الفياض، فيما يتبع الثاني إيران عبر المهندس.وبناء على هذه القراءة، قد يؤيد المتطوعون الشيعة الموالون للمرجع الأعلى علي السيستاني، الفياض والحكومة العراقية، فيما ستلتحق بالمهندس الفصائل الأشد تطرفاً وولاء لإيران ضمن الحشد الشعبي، وهي كتائب حزب الله التي يقودها ابو مهدي شخصياً، وحركة النجباء التي يتزعمها أكرم الكعبي، الموضوع على لائحة العقوبات الأميركية، وحركة سيد الشهداء بزعامة أبو آلاء الولائي، ومجموعات أخرى شبيهة. وبالرغم من أن المهندس والفياض أقرا بأن التفجيرات الأخيرة في معسكرات الحشد وقعت بفعل فاعل، إلا أنهما تقاطعا في تحديد جهة المسؤولية، فبينما سارع الأول إلى إلصاق التهمة بإسرائيل والولايات المتحدة، قال الثاني إن التحقيقات مستمرة لكشف الفاعلين.
لم تمر سوى ساعات قليلة على إعلان موقف المهندس، حتى قال رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقية فالح الفياض إن اتهامات نائب رئيس الهيئة أبو مهدي المهندس للقوات الأميركية في العراق بتوفير دعم لوجستي لطائرات أميركية وأخرى إسرائيلية لمهاجمة العديد من مقرات الحشد في الأسابيع الماضية؛ لا تمثل الموقف الرسمي للهيئة. وأصدر الفياض بيانا بعد اجتماع ضم رئيس الوزراء عادل عبد المهدي مع قيادات للحشد الشعبي أكد فيه أن من يعبر عن الموقف الرسمي للحكومة العراقية وقواتها المسلحة هو رئيس الوزراء أو من يخوله.وقال الفياض إن التحقيقات الأولية بشأن الهجمات التي طالت مقرات الحشد أثبتت أنها كانت بفعل عمل خارجي مدبر، وإن التحقيقات مستمرة للوقوف بشكل دقيق على الجهات المسؤولة لاتخاذ المواقف المناسبة بحقها.
وفتحت الهجمات التي تنسب إلى إسرائيل على مخازن السلاح التابعة للحشد الشعبي، الباب أمام انتقادات واسعة وجهتها أطراف المعارضة للحكومة، مستغربة استمرار صمتها.ويقول زعيم تيار الحكمة المعارض، عمار الحكيم، إن “ما تتعرض له منشآتنا العسكرية يعد انتهاكاً خطيراً لسيادتنا الوطنية، وعلى الحكومة ان تتحمل مسؤولياتها ازاء هذه الخروق والدفاع عن حمى الوطن”، مستغرباً “الصمت الرسمي”، إزاء “انتهاكات متكررة للسيادة العراقية”، والعجز عن “كشف الجهات والاسباب والدوافع”.
ويقول أحمد الاسدي، وهو مشرّع يترأس كتلة برلمانية، ويتزعم أيضاً ميليشيا خاصة ضمن قوات الحشد الشعبي، إن “دخول إسرائيل مجالنا الوطني إعلان حرب ضد العراق وشعبه وسيادته ومقدراته”، مشيراً إلى أن “السكوت على العدوان ليس موقفا عقلانياً، بل العقلانية والواقعية السياسية تقتضي استنفاد خيارات الدبلوماسية الوطنية مع مجلس الأمن الدولي ليكون العراق وجيشه وشعبه في حل من خيارات الردع العسكرية مع العدوان وطائراته المسيرة”.وتابع، “لن تمر تلك الفعلة الإسرائيلية والأميركية من دون أن يكون لنا موقف صريح منها”، مشددا على إبقاء “خيار الرد مفتوحاً، لأنهم أرادوها حرباً مفتوحة، والواجب الشرعي والوطني (يتطلب) إيقاف تلك الحرب بروح الرد المفتوح”.
ويرى المتابعون للشأن العراقي لشؤون الفصائل المسلحة الموالية لإيران إن حرب بيانات هيئة الحشد الشعبي تكشف تفرد المهندس بقرارات الهيئة”، كما أنها تسلط الضوء على “خلاف عميق بين فصائل الحشد، وهما خطان الأول يدافع عن العراق والآخر عن إيران.ويضيفوا أن بيان المهندس يتضمن محاولة السعي إلى تجاوز الحكومة التي تحاول النأي عن الصراع الإيراني الأميركي”، مشيرا إلى أن “سعي الفصائل لجر العراق إلى أتون حرب أميركية ضد إيران على أرض العراق.. لن ينتهي.
وهي المرة الأولى التي يحدث فيها هذا التباين، في وجهات النظر بين الأطراف الممثلة، شكليا او فعليا، للحشد الشعبي. وهذا يوحي بانقسام حقيقي داخل هذا الحشد. فمن المعروف أنه يمكن تصنيف الحشد وفقا لمعايير مختلفة، منها معايير عقائدية (اعتناق مبدأ الولاية العامة المطلقة للفقيه المعروفة بولاية الفقيه من عدمه)، أو معايير سياسية (مشاركة أجنحتها السياسية في سلطات الدولة المختلفة من عدمها)، فضلا عن معايير أخرى. وكان الخطاب الرسمي للولايات المتحدة الأمريكية، طوال السنوات الخمس الماضية، وكما أشرنا من قبل، يميز بين ما يسميه الميليشيات الجيدة، والميليشيات السيئة، وقد جاء وضع بعضها على قائمة المنظمات الإرهابية ضمن هذا السياق! ولكن من الواضح بعد البيانات المضادة الأخيرة بأننا أمام صدام حقيقي بين الفصائل العقائدية المرتبطة عضويا، عقائديا وتنظيميا بإيران (ولاية فقيه وحرس ثوري)، وبين فصائل أخرى تحاول المناورة في سياق هذه المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران، وتحاول أن تضع «عتبة»، ما زالت غير واضحة المعالم، بينها وبين إيران (سواء للحفاظ على نفوذها السياسي أو مواردها المادية)، مدعومة بالفصائل التي لا ترتبط بإيران (مثل سرايا السلام الفصائل المحسوبة على السيد السيستاني ككتائب العباس)!
ويذهب مراقبون سياسيون إلى أن الفياض والمهندس يقومان بتمثيل دورين لا يعكسان حتى اللحظة موقف إيران الرسمي. فالنظام الإيراني الذي واجه خسائره في سوريا بسبب الضربات الإسرائيلية بالصمت قد يلجأ إلى الصمت هذه المرة أيضا في العراق. ذلك لأنه لا يفضل أن تقوم فصائل الحشد الشعبي بأي نشاط تخريبي قد تدفع نتائجه عن طريق مواجهة مباشرة.