ما الذي كشفه الخرق الإسرائيلي النوعي الذي اعتُبر الأول والأخطر للقرار 1701 بعد عام 2006؟ وماذا بعدما واجه لبنان الرسمي والشعبي الاعتداء على الضاحية الجنوبية بموقف وطني واحد غاضب ومستنكر وحريص على الدفاع عن السيادة؟
في البدء كان التوقيت لافتاً، فالاعتداء بطائرتين مسيّرتين جاء، أوّلاً، عشية التمديد في مجلس الأمن لقوات “اليونيفيل” الدولية في الجنوب اللبناني. وجاء ثانياً، في عزّ أزمة اقتصادية ومالية دفعت شركات التصنيف الائتماني الدولية إلى خفض تصنيف لبنان. وجاء ثالثاً، في ظلّ سعي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى خفض التوتر في الصراع الأميركي الإيراني، والبحث في ترتيب لقاء بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب والرئيس الإيراني حسن روحاني لا يزال صعباً وسط الشروط المتبادلة مسبقاً، وجاء رابعاً، بعد سلسلة هجمات جوية إسرائيلية على مواقع وأسلحة لإيران ووكلائها في العراق وسوريا.
ولا مجال للخطأ في قراءة البيان الذي صدر عن اجتماع طارئ لمجلس الدفاع الأعلى برئاسة رئيس جمهورية لبنان ميشال عون بعد الموقف الذي أعلنه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله مؤكّداً حتمية الرد. فالبيان الرسمي تحدّث عن “حق اللبنانيين في الدفاع عن النفس بكل الوسائل”، بدلاً من أن يؤكّد على “حق لبنان”.
وهذا يعني أنّ لبنان شريك في تحمّل العواقب، لا في قرار الرد المتروك للأمين العام لحزب الله السيد نصر الله. أما شريك القرار أو صاحبه، فإنه الولي الفقيه والمرشد الأعلى علي خامنئي في الجمهورية الإسلامية في إيران.
ولم يتأخّر مسؤول إيراني في تحديد حجم الرد بأنّه سيكون “صاعقاً ومزلزلاً”، ولا تأخّر وكلاء إيران في القول إنّ الرد فعل فعله قبل أن يقع، وأنّ ما كان يسمّيه الإسرائيليون “كي الوعي العربي”، صار “كي الوعي الإسرائيلي” بما يعيد الاعتبار إلى قواعد الاشتباك في اللعبة، وهي قواعد اشتباك لم تعد محصورة بين إسرائيل و”المقاومة الإسلامية” في لبنان، بل صارت شاملة نشاط الحرس الثوري الإيراني وحزب الله والحشد الشعبي وكل وكلاء إيران في العراق وسوريا، ولكن بعد تغيير طبيعة الاشتباك.
وليس أمراً قليل الدلالات أن تتصرّف بيروت كأن الضاحية الجنوبية “أرض إيرانية” في لبنان، حيث تتولّى “المقاومة الإسلامية” لا القوات الشرعية، الرد على إسرائيل، لا بل أن تدار أوضاع لبنان وسوريا والعراق واليمن وحسابات الصراع العربي الإسرائيلي على أساس أنها معارك في حرب أكبر هي حرب المشروع الإيراني الإقليمي، والحرب عليه أميركياً وإسرائيلياً وعربياً.
وفي هذه الحرب، حسب الخطاب الإيراني في الأصل والظل، فإنّ “النصر” محسوم لإيران والوكلاء مهما تكن الخسائر والضحايا على الأرض، ومهما اشتدّت العقوبات على طهران، ولا أحد يجهل أنّ لبنان الرسمي في موقفه من تفرّد حزب الله بقرار الحرب والسلم ليس واحداً، فهو في قسم منه حليف متحمّس أو شريك يراهن على دعم حزب الله له داخلياً، وهو في قسم آخر منه مغلوب على أمره أو محكوم بالحفاظ على مواقعه لأسباب عدّة بصرف النظر عن مواقفه الحقيقية.
وليس سراً أنّ لبنان الرسمي محرج، وإن ذهب الى مجلس الأمن، فهو يطالب، على ألسنة المسؤولين الكبار، باستكمال تطبيق القرار 1701، عبر الانتقال من مرحلة “وقف الأعمال العدائية” إلى مرحلة “الوقف العام للنار”. وهو يعرف أنّ المرحلة الأولى الحالية ليست مطبّقة بالكامل، وأنّ دون تطبيق المرحلة الثانية حسابات متعدّدة وأهدافاً لدى إسرائيل وأميركا ولدى “المقاومة الإسلامية” وطهران ودمشق.
وما تحاوله بيروت هو العمل الدبلوماسي مع واشنطن وباريس ولندن وبرلين وموسكو في مسعى للضغط على كل الأطراف من أجل ألاّ تصل الردود العسكرية والردود المضادة إلى مرحلة الانزلاق نحو حرب شاملة ليست على جدول الأعمال الأميركي، والإسرائيلي، والإيراني، ولا في حسابات “المقاومة الإسلامية”، المشغولة بدورها في اللعبة الكبيرة بين أميركا وإيران.
والظاهر أنّ موسكو تمنع حزب الله من الرد من سوريا على غارة إسرائيلية استهدفت مقاتليه جنوب دمشق، حيث صار الرد من لبنان أمراً طبيعياً بعد الاعتداء على الضاحية.
لكن من الصعب ضبط الأمور والحسابات بدقّة في أوضاع معقّدة وقابلة للفلتان بقوّة الأشياء.
فلا أي رد يقوم به أي طرف يضع نقطة في نهاية السطر، ولا شيء يقود إلى الخطأ أكثر من تلاقي المُغالين في ادّعاء القوة والمُغالين في الضعف والمداهنة.
وما أصدق الرئيس أبراهام لينكولن الذي قاد الحرب الأهلية لتوحيد الولايات الأميركية في قوله “أنا أدّعي أنني أسيطر على الأحداث، لكنني أعرف أنّ الأحداث تسيطر عليّ”. هكذا يتحدّث الكبار بصراحة، ويملأ الغرور رؤوس الصغار بالبخار.
اندبندت العربي