التسريبات التي تصل من الإدارة الأمريكية إلى صحيفة مثل “نيويورك تايمز” ليست بريئة بصفة عامة، في المقام الأوّل؛ ولكنها، في مستوى سياق الرسالة التي يسعى التسريب إلى تبليغها، تذهب أبعد في المقام الثاني، لأنها قد تعكس خلافاً في التقدير تارة، أو اعتراضاً على سلوك ما، أو حتى اتخاذ خطوة ردع تمهيدية إزاء تكتيك يراه البيت الأبيض ضارّاً، على نحو أو آخر.
هذه، على سبيل المثال الراهن، حال التقرير (أي: التسريب، في نهاية المطاف) الذي نشرته الصحيفة قبل أيام، ونسبت فيه إلى مصدر رفيع في الإدارة معلومة لا يُكشف النقاب عنها عادة، وبهذه الخفة: أنّ أيدٍ إسرائيلية، الجيش والأجهزة الأمنية المختلفة، تقف وراء سلسلة الانفجارات الغامضة التي طالت مؤخراً مستودعات سلاح “الحشد الشعبي” في العراق؛ وكذلك هجوم 19 تموز (يوليو) الذي استهدف قاعدة يستخدمها “الحرس الثوري” الإيراني، شمال بغداد. وبذلك فإنّ التسريب كان ينقل عدم رضا الإدارة، والبنتاغون استطراداً، عن خطوة إسرائيلية قد تُفسد بعض عناصر الوجود العسكري والأمني الأمريكي في العراق؛ وتصنع، في أقلّ تقدير، تلك المفارقة المضحكة: أنّ حليف أمريكا الإسرائيلي يقصف حليف أمريكا العراقي!
ذلك لأنه، في المقابل، كان في وسع البنتاغون أن يترك للإعلام العالمي استنتاج المسؤولية الإسرائيلية من تلميحات بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة الاحتلال نفسه، وخاصة تصريحه “الحربجي” تماماً في لقاء مع القناة التاسعة الإسرائيلية، الناطقة بالروسية. ولقد سُئل إذا كان سيعطي الأوامر باستهداف قواعد إيرانية في العراق، فقال بوضوح: “نحن نعمل في مناطق عديدة ضدّ دولة تسعى إلى إبادتنا. وبالطبع أطلقتُ يد القوى الأمنية وأعطيتها تعليمات بالقيام بكلّ ما هو ضروري لإحباط مخططات إيران”.
وليس الأمر أنّ موقف الإدارة العلني يسير على اتساق مع الموقف الضمني الذي تتبناه التسريبات، فالعكس هو الصحيح بالطبع؛ بدليل تصريحات وزير الخارجية مايك بومبيو التي أعادت عزف الأسطوانة المتكررة إياها، أي شرعية الردّ الإسرائيلي دفاعاً عن النفس. ولكنّ حسابات الإدارة لواقع النفوذ الإيراني في العراق، في مستوياته المذهبية والسياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، يختلف في كثير من المعطيات الجوهرية عن النفوذ ذاته في سوريا؛ الأمر الذي يجعل “الحشد الشعبي” شيء، و”حزب الله” أو الميليشيات الشيعية المقاتلة مع النظام السوري شيء آخر.
لا نردع نتنياهو عن القيام بأيّ إجراء يدعم حظوظه في انتخابات الكنيست المقبلة، تقول الرسالة طيّ التسريبات إلى “نيويورك تايمز”، ولكن لا نُفسد جميع قواعد اللعبة مع إيران (النووية، أو التي قد توشك على ذلك!) من جانب آخر؛ سواء تلك التي تجري على الملأ، وأخذت ترعاها فرنسا مثلاً، أو تلك التي تشهدها الأروقة المغلقة وطاولات التفاوض السرّية. والقياس هنا هو التعاون على أرض عراقية، في أشكال شتى مختلفة، بين القوات الأمريكية و”الحشد الشعبي”، أو حتى “الحرس الثوري” الإيراني وقاسم سليماني شخصياً؛ في مواجهة “داعش”، سابقاً وفي أيّ وقت لاحق أيضاً. كذلك فإنّ إحراج حليف للإدارة في رئاسة الحكومة العراقية، مثل عادل عبد المهدي؛ يختلف تماماً عن عقاب جندي عند الوليّ الفقيه، مثل حسن نصر الله؛ أو إذلال تابع لإيران في دمشق، مثل بشار الأسد.
والحال أنّ معادلات التفاهم القصوى بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونتنياهو هي التي أجبرت الأخير على ابتلاع تصريحات الأوّل حول الطعن في ولاء يهود أمريكا، والتي تداني العداء للسامية في عرف منظمة الـAIPAC ذاتها؛ وهي التي يسّرت على سيد البيت الأبيض منح رئيس حكومة الاحتلال ضوءاً أخضر مكتوماً لقصف مقرات “الحشد الشعبي”. وهذا توازن غير طارئ في الواقع، حتى إذا اختلفت معدّلات المعادلة، في العصور الراهنة، بين رؤساء مثل بيل كلنتون أو جورج بوش الابن أو باراك أوباما، وبين ترامب… “ملك إسرائيل”!.
القدس العربي