يعرف العراقيون جيدا طبيعة الصناعات الإيرانية، معرفة ترسخت عقب الاحتلال الأميركي، وإن كانت حكايتها بدأت في أثناء الحصار الدولي الذي فرض على العراق إبان تسعينيات القرن الماضي، يوم وجدت إيران سوقا تصرف إليه بضاعتها الرديئة، محتالة على العقوبات، ومستغلة حاجة العراق إليها، فعرف العراقيون “ساخت إيران”.
ولم يقتصر الأمر على البضائع الاستهلاكية والسيارات التي باتت تميز شوارع بغداد لرخصها، وإنما كانت لإيران مهمة أخرى، تتمثل بصناعة الرموز. وبالطبع، لا يبدو أن الصانع الايراني الذي امتاز بصناعة السجاد يجيد صنعة غيرها، فكما هي بضاعتهم الرديئة، كانت الرموز التي صنعوها، أكثر رداءة من بضائعهم، ولعل أبرزهم نوري المالكي، رئيس الوزراء السابق، ونائب رئيس الجمهورية الحالي.
منذ اختياره رئيسا للحكومة عام 2006، وإيران تجتهد في دعم المالكي، حتى إنها تنازلت من أجله عن شركاء آخرين، وأتباع كثر، في سبيل أن يكبر ويسطع نجمه، وكلنا نتذكر الحملة التي شنها على التيار الصدري عام 2008، صولة الفرسان المشهورة، وكيف أن إيران كانت تنتقد الحملة علناً، وتدعمهاً سرا، وذلك كله في سبيل أن يكون المالكي الزعيم الأوحد.
وجاءت فترة التجديد له عام 2010، على الرغم من خسارته وقائمته. يومها شمرت إيران عن أذرعها العراقية التي راحت تجتهد وتفسر النصوص القانونية، تبعا لأهواء المالكي، وذلك كله حتى يبقى رئيسا للحكومة، وتم له ما أراد. وفي انتخابات 2014، أصر المالكي، ومن خلفه إيران، على الدورة الثالثة، وهو القائل إن رئيس الحكومة الذي يفشل في دورتين في تحقيق برنامجه الانتخابي لا ينبغي أن يبقى فيه، غير أن الرياح كانت أعتى من أشرعة إيران، فاستسلمت، مؤقتا على ما يبدو، لتستبدله بحيدر العبادي، بعد أن سلم العراق، وهو يغلي على مرجل الطائفية، وفقدان نحو نصفه، لتنظيم الدولة الإسلامية الذي ما كان له أن يكون، لولا الغباء السياسي والطائفي الذي مارسه المالكي.
اليوم، وبعد نحو عام من استسلام المالكي للأمر الواقع، وتنحيه مجبراً عن رئاسة الحكومة، تسعى إيران من جديد لإعادة ترميم صورة المالكي، عبر سلسلة عمليات، بدأت مع خطة لإفشال الحكومة الجديدة وبرنامجها الذي أعلنته عقب تولي العبادي رئاسة الحكومة، وما تبع ذلك من محاولة لتشكيل منظومة عسكرية كبرى، تدين بالولاء لإيران، خارج نطاق الجيش العراقي، وهي منظومة الحشد الشعبي، وآخر تلك المحاولات إعادة المالكي إلى الواجهة.
بقي المالكي متوارياً في منصبه الجديد نائبا لرئيس الجمهورية، أشهراً عدة، يخشى الظهور، يشكو من التفاف رفاق حزبه عليه، وتهميشهم له، بل حتى إنه بات يشكو من تهميش الإعلام، فطوال أشهر، لم يظهر عبر وسيلة إعلام واحدة، على الرغم من أنه كان يقدم لها نفسه، ويطلب منها إجراء مقابلة معه.
الأكثر من ذلك أن المالكي كان يخشى أن يجري استجوابه في التحقيق الذي فتحته الحكومة حول أسباب سقوط الموصل بيد تنظيم الدولة، إبان فترة حكمه، غير أن الحال تغير، وصار المالكي يظهر بكثرة في وسائل الإعلام، مثيرا الجدل حوله وحول تصريحاته التي تتسم بالطائفية المقيتة.
ظهوره الأخير في كربلاء، وحديثه مع شيوخ عشائرها وأعيانها، بلسان طائفي مبين، اتهم من خلاله الصحابة بإشاعة الإرهاب، من خلال حرق مصاحف عدة وكتابة مصحف واحد خال من الهوامش التي كانت تبين وتشرح، جاء ليؤكد، من جديد، أن طهران تريد أن تدفع الرجل إلى واجهة الأحداث.
ولأن الصناعة الإيرانية عرفت برداءتها، ظهر المالكي بمظهر رديء، لأنه لا يعرف سوى هذا الدور، تماما كما لعبه إبان رئاسته الحكومة، وهو القائل إنه شيعي قبل أن يكون عراقيا. وإيران تدفع به اليوم، لإظهاره بمظهر القائد للحشد الشعبي، لأنها باتت تخشى من تقلبات الأوضاع والأحوال الدولية، خصوصاً في أعقاب خروج منظومة الخليج العربية من خانة انتظار ما ستفعله أميركا في المنطقة، وتحولها إلى فاعل للأحداث وصانع لها.
تخشى إيران من تأثيرات ذلك على العراق، وهي تعرف جيداً أن الحكومة الحالية ضعيفة، ولا تملك إلا الاستسلام لقرارات المجتمع الدولي إن هو قرر التدخل المباشر في صناعة القرار العراقي، وبالتالي، قد تفقد نفوذها المطلق في العراق. ومن هنا، بات المالكي ضرورة، وليس خياراً، لأن طهران ترى فيه صنيعة قادرة على أن تجابه الرغبات الإقليمية والدولية.
تهدف إيران من تلميع صورة المالكي طرحه خياراً أمام شيعة العراق، ليكون بديلا للعبادي، في حال تعثر في تنفيذ ما تطلبه منه طهران، فإيران تدرك أن العبادي ليس خيارها المفضل، وأن غالبية الشخصيات الشيعية العراقية المطروحة بدائل للعبادي لا تملك أوراق لعب كثيرة داخليا، باستثناء المالكي الذي يقال إن هناك قيادات كبيرة داخل منظومة الجيش ما زالت تدين له بالولاء، ناهيك طبعا عن الحشد الشعبي.
المالكي، إن سعت إيران إلى دفعه لصدارة المشهد مرة أخرى، كما يدور في دهاليز المطبخ السياسي، سيكون وبالاً على العراق والمنطقة، كما كانت سنواته الثماني العجاف. ومن هنا، بات واجبا التحرك مبكرا لإفشال هذا المسعى الإيراني، ولعل أفضل الطرق لذلك محاكمة المالكي على ما ارتكب.
إياد الدليمي
صحيفة العربي الجديد